سبق لناقدٍ عربيّ أن اتهم الرواية السورية بأنها رواية أيديولوجية، وصيغة الاتهام تقول إنها رواية تهجس بالسياسة، وبالخيارات السياسية لشخصياتها، أو أبطالها وبطلاتها، أكثر مما تتدخل في شؤون الحياة اليومية، التي هي الأساس في نهج الرواية منذ نشأتها.
وبسبب لغة التعميم هنا، حُرمت الروايات السورية من القراءة العادلة، أي تلك القراءة التي تنتبه للخصوصيات التي تميّز كل عمل روائي عن غيره، فوضعت الرواية السورية كلها في سلة واحدة، دون أن تُقدّم الأدلة والقرائن المستمدة من تاريخها وحاضرها أيضًا، وما هي النتيجة؟ كان يفترض ألا يستمع إليه أحد، ولكن السلطة المعنوية الممنوحة لاسم ما في عالم الأفكار تعفيه من المساءلة عادة في فكرنا العربي، فيتسبب مثل هذا الرأي في تعميم الفكرة وإهمال قراءة الرواية وعدم إنصافها تالياً في النقد والقراءة.
اللافت أن عالمنا يحفل بالنظريات النقدية، وأن كل نظرية من تلك النظريات تتحدّث عن الكتاب نفسه من موقع فكري وفلسفي مغاير. إذ يمكن لناقد ماركسي أو باختيني أو فرويدي أو من مدرسة النقد الجديد أن يقرأ مسرحية لشكسبير، أو رواية لفوكنر، أو ماركيز، أو نجيب محفوظ، أو محمد زفزاف، أو غيرهم، قراءة مختلفة عن الناقد الآخر.
والمعروف أن مسرحية "هاملت" لشكسبير وحدها حظيت بآلاف الكتب والقراءات التي تقدّم كل واحدة منها رؤية مختلفة عن الأخرى. غير أن عالمنا يحفل أيضًا بالكتّاب الذين يعتبرون النقد (الدوغمائي بالتأكيد، قبل أن يغضب أحد) مسلخًا، أو أن النقاد "جنرالات فاشلون عجزوا عن الاستيلاء على بلد فلوّثوا مياهه"، وفقًا لتعبير المفكر الفرنسي مونتيسكيو.
قد يصبح الناقد سلطة مهيمنة تضع الكتاب في قوس محكمة الأدب الاتهامية
في ملاحظة لافتة، يقول والاس مارتن، صاحب كتاب "نظريات السرد الحديثة"، إنه في الوقت الذي يتناقش فيه النقاد حول النظريات، قد ينتج المبدعون أعمالًا أدبية جديّة تغيّر أرضية المناقشة كلها. أي أنها تخلق معطيات جديدة يمكن أن تنسف قواعد النقد والنظرية. والأمثلة كثيرة في عالم الأدب والفن أيضًا.
ولعل تجاهل هذه الحقيقة هو ما قد يُورّط النقد. وقد يصبح الناقد المُسيطر سلطة مهيمنة تضع الكتاب في قوس محكمة الأدب الاتهامية. يمكن تذكّر الناقد الروسي ميخائيل باختين، على سبيل المثال، في الحضور العربي. فمنذ أن تُرجمت أعماله النقدية إلى لغتنا وتبناها بعض النقاد، صار كل من التعدد اللغوي، والكرنفال، والمبدأ الحواري، أساسًا ينطلق منه النقد لمحاسبة الرواية العربية. وصار يكتشف عددٌ من النقاد أن الرواية العربية تفتقر للحوار، وتفتقر للكرنفال، وصار كل من يقرأ رواية عربية يبحث فيها عن الملاءمة بينها وبين هذه المصطلحات، بينما لم يكن باختين يفكر، قطعًا، في أن تحليله للروايات التي سبقت كتبه النقدية، سيصبح قاعدة في الكتابة.
تكاد تلك الحالة التي لا تزال سائدة حتى يومنا تشبه ما قال الفرنسي جوليان غراك: "ماذا نقول لهؤلاء الذين يمتلكون مفتاحًا لا يرتاحون إلّا إذا شكّلوا عملك على صورة قفل؟".
* روائي من سورية
