المنفى والترحيل وجاهزية السلطات للأذى

منذ ١ شهر ٤٨

هناك، حيث أبحرت الباخرة بجمال الدين الأفغاني منفياً ومطروداً من مصر في مساء ليلة الأحد 24 أغسطس/ آب سنة 1879 ميلاديا، الموافق للسادس من رمضان سنة 1296 هجرية، تحت حراسة مشدّدة من ميناء السويس إلى ميناء بومباي بالهند، شجنٌ يأخذ المرء بعيداً، حيث لا بلاد تهمّ المرء ولا وطن.

علّني سأقف طويلاً في ميناء بومباي، أنظر إلى المساكين وهم يفكّون في مسامير وحديد سفن الشحن القديمة بعدما أكل عليها الصدأ وشرب. أما تلاميذه، فإنهم علموا نبأ نفي أستاذهم في اليوم التالي للقبض عليه، عندما ذهبوا إلى منزله، فوجدوا شرطة الضبطيّة يفحصون حاجياته ويصادرون بعضها، وينهبون جانباً من كتبه، وذلك قبل أن يضعوا بقية كتبه في عدّة صناديق أرسلوها عبر البحر إلى ميناء بندر أبو شهر الإيراني، فقد كانوا يظنّون أن جمال الدين سيعرّج عليه، ولقد بقيت هذه الصناديق في مخازن الميناء، حتى جاءت الحشرات على محتوياتها.

بعد هذا المقطع السابق شبه المنقول، إذا بالراحل أحمد عمر شاهين، الكاتب والمترجم، يأتي على جناح خيالي في أحد المغارب للإتيليه في القاهرة، حاملاً أيضاً كيساً من الكتب، هل لأن الكتب في المقطع السابق كان لها حضور البطل، أم لأن الأمر كله قد بات كافكاوياً ومرعباً من الألف إلى الياء، أم لأن الجو مع شاهين كان في مثل هذه الأيام التي تتمسح فيها القطط بالجالسين. كانت القطة تتمسح به وهو مشغول بالشاي ويحكي عن الكتب أيضاً أيام ترحيل أنور السادات الراحل غالب هلسا. كان شاهين يقول: ظللت أسابيع وأنا مشغولٌ جداً بأمر مكتبة غالب، ولعابي يسيل إلى بعض كتبها. وبعد ساعة أو ساعتين، أهبط من البناية، ولا أحمل معي أي كتاب، حتى وصلت إلي الفاجعة أن تعال كي تشاهد المكتبة، وهي ملقاة تحت سلم البناية لإخلاء الشقّة لأصحابها. كيف صدرت القرارات تباعاً في تلك الأيام بهذه السرعة الفائقة، يتعجّب أحمد عمر شاهين في أيامه على تلك السرعة، ويكمل حديثه: حينئذٍ، تمنّيت لو كنتُ قد حملتها معي كلها قبل أن أرى المأساة لكتب غالب هلسا هكذا مرميةً تحت سلم البناية، وبوّاب العمارة يشرب الشاي بشكل أكثر من عادي. كانت القطة وكأنها تستمع للحكاية، فإذا بأحمد عمر شاهين يفكّ لفة "اللانشون" ويقدمها للقطّة، كي يحكي بقية القصص المشابهة.

هل يدور الزمان دورة دائرة، وكأن خوف السلطات كما هو، وكأن المتنبي كما هو، وكأن كافور كما هو، وكأن الشعر ومجازاته وصوره كما هي، ترعب أصحاب الممالك، وكأن صوت أحمد عمر شاهين الهادئ كما هو يحكي في شتاء قاتم في "الإتيليه" في تسعينيات القرن الماضي، وكأن القطط كما هي تسعى وراء الرائحة، أي رائحة، رائحة "لانشون"، أو رائحة بقية كرامة أو بقية حرية، والحكّام كما هم غير مشغولين ألا بتحصين الممالك بالسجون والمخبرين وبوّابي العمارات وحمّالي الكتب من تحت سلالم البنايات، فقط الأمر صار أكثر سرعة وحداثة وخسة أيضاً في حالة الشاعر عبد الرحمن القرضاوي.

الآن تقوم الدول بدور البوابين والقضاه وأصحاب الضبطيّة القضائية. ... أعرف أن المتنبي لم يأت لكافور من أجل غزّة أو سورية، ولم تكن لدى كافور أي كاميرات أو مقاطع مصوّرة كي يدين المتنبي الذي لم يكن يمتلك سوى المحبرة والأوراق وقصائد المديح أو الهجاء. ولم يكن لدى المتنبي أيضاً جوازٌ تركيٌّ، وأن الدنانير كانت أيضاً ثقيلة، وأن المتنبي لم يكن ليرضى إلا بالكرم الحاتمي. أما عبد الرحمن فكانت تكفيه وجبة واحدة على حسابه الشخصي، ولم يكن يبحث عن ملك سني لدى نجيب ميقاتي ولا لدى أولاد رفيق الحريري، ولم يكن يطمع في حصان أو بغلتين للطريق أو جارية لعوب تهون عليه طريق العودة، فالرجل تذكرة طيرانه من حرّ ماله، وكافور كان بخيلاً جداً على أيام المتنبّي، أما على أيام عبد الرحمن فقد كان لئيماً.

يدور الزمان دورة دائرة، والشعر أيضاً يدور دورته، فقط تزداد السجون عدداً، ويزداد الشعراء نحولاً وصمتاً بعدما ماتت البيانات تماماً في المهجر أو في غير المهجر، هل لأن روائح "اللانشون" لم تعد كافيةً لإسالة لعاب القطط، بعدما صار الحاكم هو الشاعر، والإعلامي، ومعد البرنامج، والقاضي، والمخبر، وقاعة المحكمة، وصاحب الضبطيّة القضائية، والشاهد إن احتاجت قاعة المحكمة لذلك.

قراءة المقال بالكامل