تسعى الحكومة البريطانية، من خلال ما يسمى "الورقة البيضاء" للهجرة، إلى تقليص الاعتماد على العمالة الأجنبية عبر رفع متطلبات التأشيرات وتضييق سبل الإقامة الدائمة، في مقابل وعود بتوسيع برامج التدريب المحلي.
وأعلن رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر في مايو/أيار 2025 نهاية حقبة "الحدود المفتوحة"، واصفًا إياها بأنها تسببت بأضرار سياسية واقتصادية جسيمة لبريطانيا. وجاء ذلك رغم تراجع تاريخي بنسبة 50% في صافي الهجرة خلال عام 2024، بحسب بيانات المكتب الوطني للإحصاءات.
ولا تأتي هذه التحولات التشريعية من دون تكلفة، إذ باتت تهدد مستقبل آلاف الكفاءات الأجنبية، وفي مقدمتها الكفاءات العربية، التي لطالما لعبت دورًا محوريًا في دعم قطاعات حيوية في المملكة المتحدة. ومع تشديد الشروط البريطانية، باتت العواصم الخليجية تُغري هذه الطاقات بسياسات أكثر انفتاحًا وامتيازات طويلة الأجل، ما يفتح الباب أمام موجة جديدة من الهجرة المعاكسة.
وتحدثت "العربي الجديد" مع المحاميتين ناتالي لودر وتانيا جولدفارب، المستشارة القانونية الأولى ورئيسة قسم هجرة الأعمال في شركة بيندمانز للمحاماة في لندن، حيث وجهتا نقدًا لاذعًا للسياسات الحكومية الحالية، معتبرتين أن الورقة البيضاء للهجرة تعكس رسالة مفادها: "نريد أعمالك، وليس شعبك".
وقالت المحاميتان إن الهجرة تمثل ركيزة أساسية لازدهار المملكة المتحدة، فهي تساهم في تعزيز الاقتصاد والتنافسية والابتكار من خلال تنوع القوى العاملة وتبادل الأفكار.
انتقادات ضد الورقة البيضاء
وانتقدت المحاميتان قرار الحكومة إلغاء تأشيرات العاملين في قطاع الرعاية الاجتماعية، ووصفتاه بأنه "قصير النظر"، متسائلتين: "من سيتولى رعاية كبار السن في بلد يشهد شيخوخة متزايدة؟" وأوضحتا أن التفاصيل الكاملة للورقة البيضاء لم تُكشف بعد، لكن الواضح أن الرغبة في تطوير مهارات الاقتصاد البريطاني قد اختلطت بسعي حكومي حثيث للحد ممّا يُسمى بـ"الهجرة غير الشرعية"، وهو مصطلح يُساء استخدامه كثيرًا ليُفهم أنه يشمل الهجرة الصافية عمومًا.
وحذّرتا من أن السياسات الحالية، التي تنحو نحو الانعزال، قد تضر بمكانة المملكة المتحدة عالميًا وتضعف قدرتها التنافسية في جذب الكفاءات. وأكدت المحاميتان أن بريطانيا ليست "جزيرة للغرباء" وفق تعبير ستارمر، بل بلد غني بالتنوع والتميّز والمواهب، وإذا ما أرادت الحفاظ على هذه المكانة، فعليها تسهيل سُبل استقطاب العقول اللامعة، لا تعقيدها وزيادة كلفتها.
واعتبرتا أن رفع سقف المؤهلات والرواتب المطلوبة للحصول على تأشيرة العمالة الماهرة خطوة غير عملية، لا سيما بعدما خُفّضت في عام 2020 اعترافًا بالحاجة الماسّة إلى المهارات في مختلف المستويات لضمان استمرار نجاح البلاد. ما حذرت منه المحاميتان لا يبقى في إطار النقد القانوني، بل ينعكس بوضوح في أزمة متفاقمة تشهدها قطاعات حيوية تعتمد على المهاجرين لسد فجوات خطيرة في سوق العمل البريطانية.
في قطاع الصحة على سبيل المثال، يشكل قرار الحكومة إلغاء تأشيرات العاملين في الرعاية الاجتماعية خطوة محفوفة بالمخاطر في بلد يشهد تسارعًا في معدلات الشيخوخة. فرفع الحد الأدنى لرواتب العمالة الماهرة من 26 ألفًا و200 إلى 38 ألفًا و700 جنيه إسترليني، أي زيادة تقارب 48%، قد يُقصي الأطباء والممرضين العرب حديثي التخرج، خاصة أن الرواتب المبدئية تقل أحيانًا عن هذا السقف.
كما أن إلغاء تأشيرات الرعاية يُنذر بتفاقم أزمة الكوادر، إذ تشير بيانات مؤسسة Skills for Care، لعام 2023 إلى أن نحو ربع العاملين في هذا القطاع من المهاجرين، مع تمثيل واضح للجاليات العربية في بعض المناطق الحضرية. ما يعني أن هذه الإجراءات قد تُعمق النقص في أحد أكثر القطاعات ارتباطًا بالأمن الصحي والاجتماعي. أما في قطاعي البناء والهندسة، فتبدو التداعيات أكثر وضوحًا، إذ تواجه الشركات تأخيرات في تنفيذ المشاريع وارتفاعًا في التكاليف بسبب نقص العمالة الماهرة.
وتفاقمت الأزمة بعد رفع مستوى التأشيرات المطلوبة من RQF3 (دبلوم) إلى RQF6 (درجة جامعية)، ما يُضيق فرص المهندسين العرب، لا سيما في تخصصات الطاقة والبنية التحتية. وقد حذّرت جمعية SELECT الاسكتلندية من أن هذا القرار قد يدفع نحو 60% من العمال المهرة في قطاع الطاقة المتجددة إلى مغادرة البلاد، ما يهدد أهداف المملكة في التحول نحو اقتصاد منخفض الكربون.
كذلك، سجلت جامعات كبرى، مثل "إمبريال كوليدج لندن"، تراجعًا في إقبال الطلاب العرب على تخصصات الهندسة نتيجة الغموض المحيط بفرص العمل بعد التخرج. وفي قطاع التكنولوجيا، أصبحت السوق البريطانية أقل جذبًا للمبرمجين العرب، خصوصًا المبتدئين، بعد رفع الحد الأدنى للأجور المطلوبة للحصول على تأشيرة إلى 38 ألفًا و700 جنيه، فيما لا تتجاوز الرواتب المبدئية عادة 30 ألفًا إلى 35 ألفًا جنيه.
على النقيض، أطلقت الإمارات والسعودية وقطر برامج إقامة ذهبية طويلة الأجل، وأطلقت خطوات تدريجية لتفكيك نظام الكفالة التقليدي، لتصبح بيئات العمل فيها أكثر جاذبية للمستثمرين والخبرات العالمية. وبينما تطيل لندن فترة الحصول على الإقامة الدائمة لتصل إلى عشر سنوات، تقدم هذه الدول مسارات إقامة مرنة وسريعة، مع بعض القيود في قطاعات محددة، لكنها ترسم ملامح منافسة جديدة على المواهب العربية في سوق عالمي متغير.
هذا التباين يفتح الباب أمام نزيف مستمر في الموارد البشرية العربية من بريطانيا، ويطرح تساؤلات جوهرية حول مدى انسجام سياسات الهجرة البريطانية مع أهدافها الاقتصادية والتكنولوجية المستقبلية.
