لو كنتَ في غزّة منذ بدء الحرب يمكنك أن تلتقط صوراً لا تُعدّ من تلك المواقف التي تسطّر كفاح المرأة الفلسطينية عامة، والغزّية خاصة، ففي هذه الأيام، وحيث هناك حربٌ أخرى تقطع سبل العيش بأهلها، فهناك صور أعمق، مثل أن ترى سائق عربة يجرّها حمار، أو ما يعرف بـ"عربة الكارو"، وسيبدو السائق نحيفاً بملابس رجاليّة فضفاضة، وستلاحظ أنه يمتنع عن الثرثرة مع الركاب كعادة السائقين، سواء سائقي السيارات أو العربات التي تجرّها الحيوانات، وحيث بدأت عربات الكارو تأخد مكان السيارات بسبب شحّ المحروقات بأنواعها، وتدمير الشوارع التي لم تعد صالحةً لكي تمرّ من فوقها السيارات، كما ستكتشف أن سائق عربة الكارو كان يمتنع أيضاً عن إيذاء الحيوان، حتى إذا ما أوصلك إلى مقصدك ونقدتَه أجرته، تكتشف أن السائق امرأة، حين تسمع صوتاً أنثوياً رقيقاً لا تخلو نبرتُه من حزنٍ دفين، وحيث ينتابك الفضول لتعرف سبب عملها هذا، والذي يتطلّب منها نقل أثقال للراكبين، فسوف تجيبك بأنها تولّت هذا العمل بعد مرض ابنها، وحيث ليس هناك فائدة تُرجى من أن تقبع في الخيمة إلى جوار ابنها لكي يموتا جوعاً مع باقي أفراد العائلة.
تبهرك هذه القصة عن كفاح المرأة في غزّة، وتنكشف يوماً بعد يوم قصص وحكايا كثيرة مماثلة عن صبرها وقوّة تحمّلها وحسن تدبيرها، وبأنها فعلاً امرأة لكل يوم، فهي امرأة اليوم الأبيض حين كان لها بيتٌ بجدران أربعة وسقف، وكانت لديها مقوّمات الحياة الأساسية، والتي أضحت حلماً لها اليوم، فكان الماء ينزل من الصنبور، وهناك سخّان في الحمام حين تحتاج للحصول على حمّام صباحي، والكهرباء تنير البيت وتدير الأجهزة، فالملابس تُغسَل بواسطة الغسّالة الكهربائية، والطعام يُطهى فوق موقد تستطيع إشعاله بكبسة زر، والصغار ينامون في أسرّتهم الدافئة، ويتوجّهون صباحاً إلى مدارسهم، فيما ترتع الأمّهات في جنّاتهن الصغيرة، راضياتٍ قانعات، ومدبّرات وقائدات.
وحين تبدل الحال، هنّ أيضاً نساء لليوم الأسود الذي يبدأ فجراً، وأكثر بكوراً من أيام مضت لكي يلحقن بالطابور، والحياة في غزّة، باختصار، أصبحت قائمة من الطوابير، أو أن تضع طوابير في طابور، ويعرف كل طابور اسمَه، فلذلك فهي تقف في طابور برائحة نتنة صباحاً وبصحبتها الصغار الذين يفركون عيونهم محاولين طرد بقايا النعاس، فتُحاول ان يقضوا حاجتهم في المرحاض الجماعي، قبل ان يبلّلوا ثيابهم، وتحاول أيضاً أن تغسل لهم وجوههم بنزر قليلٍ من الماء، وفيما يجلسون جوعى على أرضية الخيمة، فهي تبدأ في إشعال النار مع زوجها، وتساعده في النفخ نحو القشّ المُبلّل بماء المطر لكي يشتعل وتضع فوقه قدراً متآكلاً بما تيسّر من طعام، وتجلس قبالته في صبرٍ لا ينفد، حتى تتأكّد من نضجه، فإذا ما نضج ووضعته أمام الصغار فهي تتشاغل بإعداد الشاي لكي توفّر لقمتها لبطن تقرقر.
وبعد أن تطمئن إلى أن البطون قد استقبلت أقلّ القليل، تبدأ في الانتظار في طابور الحصول على الماء، وطابور الحصول على الخبز، وتُنهي نهارها بغسل الملابس بيديْها المتشقّقتين الجافتين. وحين تشعر بالتعب تنظر صوب عيني زوجها المتعبتين، والعائد من رحلة البحث عن حطب أو مصدر رزق، فتجده ينظر إليها في حب وامتنان، فتنسى هذا كله وترقد على أرضية الخيمة استعداداً لصباح جديد يشبه كل صباحاتها، ويضع حياتها مع عائلتها على قيد انتظار موتٍ مؤجّل.
تثبت المرأة الفلسطينية، في غزّة خصوصاً، أنها امرأة كل يوم، حيث تسطّر أسمى معاني الصمود والعطاء، منذ بدأت المقتلة، فبينما دفعت ثمناً غالياً من روحها حين سجّلت آلاف القتيلات والمفقودات تحت الأنقاض، فالناجيات من الموت ابتُلين بفقد الأولاد والأهل، وانهيار البيوت والتشرّد، لكنها تبقى ناحتة في صخر حياة مرتّقة، وبصبر معمدانيٍّ مقدّس، من أجل من بقوا على قيد تلك الحياة.
