قال زعيم منظمة التحرير الفلسطينية، الراحل ياسر عرفات، بعد أن أُجبِر الفدائيون على الخروج من بيروت عام 1982، إنهم غادروا لحماية لبنان وأطفاله من البطش الإسرائيلي. ... لا يُساق هذا الاقتباس للقول إن على حركة حماس الخروج من غزّة، فالمقاتلون منها على أرضهم؛ أرض فلسطين، ففيما كانت قوات المنظمة في لبنان، وطلب منها أنصار الثورة الفلسطينية، دون الانقلاب عليها وعلى القضية الفلسطينية، توفير أرواح اللبنانيين الذين ذاقوا العذاب تحت وابل القنابل العنقودية وغيرها من الأسلحة المحرّمة دوليا، بعد 65 يوماً من الحصار الصهيوني بيروت.
أشير إلى تصريح عرفات في محاولة لنتفهّم الشعار الذي رُفع في بيت لاهيا ورفح والنصيرات، وهو صرخة أهل قطاع غزّة: "بدنا نعيش"، فما تحمّلوه لا يستطيع بشر تحمّله، ولك أن تتخيّل مشاعر أب يفقد كل أسرته أو طفل تباد أمه وأبوه وإخوته وجده وجدته، إضافة إلى مبتوري الأطراف من الأطفال الفلسطينيين الذين فاق عددهم ضحايا أيّ حربٍ سبقت، والشباب الذين نجوا بحياتهم فقد كثيرون منهم القدرة على الحركة والبصر، يعيشون في يأسٍ من حاضر ومستقبل. لستُ بحاجةٍ لسرد القصص؛ فلم يبق أحدٌ لم يقرأ أو لم يرَ على شاشات التلفاز هول معاناة الغزّيين وقتلهم وتقطيعهم أشلاءً متناثرة.
كيف يمكن تخوين هؤلاء؟ مهما قالوا، على الجميع، بمن فيهم قيادة "حماس"، تفهُّمهم. وأصلاً لا أعرف كيف يمكننا النظر في عيون أي إنسان في غزّة أو هارب من الموت، بعد أن فقد سبل الحياة فيها، في محاولة النجاة بالنفس والأولاد؟
أقولها عن نفسي، أولاً: لا يحقّ لنا المزايدة على أهل غزّة بأي حرف أو كلمة، فتأييدنا المقاومة لا يمنحنا شهادة وطنية بالمجان، وعلى حساب أهل غزّة، وحتى أهل الضفة الغربية الذين يتعرّضون للتهجير من مخيمات اللجوء، فالانتماء الثوري يبدأ بحسّنا الإنساني وتقديرنا الحياة. نحن نبجّل الشهداء، وهذا جزء من التزامنا بمعركة تحرير فلسطين، ويجعلنا نقدّس الحياة، وألّا نعتبر أن الغزّي الجيّد، أو حتى الفلسطيني الجيّد، هو الشهيد فقط، وعلى الآخرين إثبات وطنيتهم بالموت!
من المحزن، بل المخجل، أن نرى من ينعت كل غزيٍّ عبّر عن حلمه البسيط بحقه أن يحيا بدافع العصبية الفصائلية أو قلة الوعي. ومن المخجل أن نرى أصواتاً، وبخاصة من خارج فلسطين، تغتنم الفرصة لتبثّ سمومها ضد المقاومة الفلسطينية، فهذه الأصوات تنبذ المقاومة، أياً كانت هويتها الفصائلية، فنحن في زمان الهوان والتطبيع مع القاتل الصهيوني. أما الأصوات الفتحاوية المحتفلة باحتجاجاتٍ في غزّة فلتصمت، إذ إنها، قبل المسّ بتضحيات المقاومة والشعب الفلسطيني، تستهتر بكل تضحيات حركة فتح من شهداء وأسرى في السجون الإسرائيلية، فلسنا في معركة انتقام من حركة حماس وأحداث 2007 في غزّة، مهما كان رأينا فيها.
وضع "حماس" صعب، ليس لأنها لا تريد إيقاف الحرب، بل لأن إسرائيل لا تريد ذلك
ينسى هؤلاء تقاعس السلطة الفلسطينية وقيادة حركة فتح التي سعت وتسعى لتهميش كل الأصوات الحرّة فيها، بل والتحريض على المقاومة بلهجة يستعملها العدو. ... قد تكون هناك جهاتٌ تحرّض من أجل تحرّك ضد حركة حماس، وهذا وارد جداً، فيجري خلط المظلوميّة بحساباتٍ منفعيّة غبية، خطرها تقسيم الشعب الفلسطيني والدفع إلى التناحر. وتقع المسؤولية هنا على كل الحركات الفلسطينية والسلطة الفلسطينية و"حماس" بمنع التأجيج، فاستثمار الوضع للانتقام من "حماس" واستئثارها بالسلطة في عام 2007 هدف وضيع، يدفعنا إلى التساؤل: على أي كوكبٍ يعيش هؤلاء؟
لا أميركا ولا إسرائيل تريد السلطة الحالية، وواشنطن تحاول ان توجِد سلطة بديلة في غزّة، وأين الفخر بأن تعود السلطة الوطنية بقرار أميركي على حطام بيوت غزّة؟ لا يعني ذلك أن قيادة "حماس" لا تتحمل جزءاً مهمّاً من مسؤولية إدارة الوضع ومسؤولية قراراتها، فإن "حماس" حركة مقاومة لا يعفيها من المسؤولية، فيجب أن تتحمّل المحتجين وتتفهمهم، ففي النهاية فلا تنسى تأثير اغتيال قيادييها على عائلاتهم واستشهاد وإصابة آلاف من عائلاتهم والجرحى، فهم جزءٌ من الوجع العام ويعون شعور من تبقوا من عائلاتهم وخوفهم من استمرار الحرب، هم جزءٌ من الشعب الفلسطيني المستهدف بحرب الإبادة.
اتخذت "حماس" القيام بعمل مقاوم ضد إسرائيل غير مسبوق في 7 أكتوبر، تبعه انتقام وحشي غير مسبوق من العدو الصهيوني، لكن "حماس" لا تتحمل وزر توحّش الجيش الإسرائيلي ومشاركة أميركا ودول غربية في حربٍ استعملت فيها آلاف الأطنان من القنابل تفوق ما ألقي في الغارات الألمانية التي أحرقت سماء لندن ومثيلتها البريطانية التي أشعلت سماء مدينة دريسدن الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية، ولكن على "حماس" إجراء مراجعة قاسية وصريحة لنفسها. وأي مراجعة مثل هذه، وقد نُسب إلى قياديين في الحركة قولهم إنها لم تدرس جدّياً تداعيات عملية طوفان الأقصى، لكن هذه المراجعة يجب ألا تكون إرضاءً للغرب أو محاولة لكسب قبوله، بل مراجعة حقيقية يصارَح بها الشعب الفلسطيني بشجاعة.
آن الأوان ليس فقط لتحمّل "حماس" مسؤوليتها، بل أن يتحمّل الجميع مسؤولية المشاركة في اتخاذ قرارات بعيدة عن الحسابات الفئوية
لقد سببت العملية صدمة لإسرائيل وحلفائها، وأربكت حسابات أميركا، واعتبرت أنظمة عربية أن القضية انتهت، وبدأت تحتفل بقدوم تطبيع شامل وكامل وتحالف حبٍّ ومودّة مع تل أبيب، لكنها لا تستطيع تجاهل الخسارة البشرية وكأنها مجرد تضحية لا بد منها، فنحن في عالم لا يحترم القانون ولا النفس البشرية، فالضحايا الفلسطينيون لا يعنون شيئاً لمن يريد الإبقاء على احتلال غزّة واقتلاع الشعب الفلسطيني أو لرئيس أميركا الذي لا يرى في غزّة سوى مشروع عقاري سيدرّ المليارات له ولشركائه الذين لا يشبعون دماً ومالاً من أشلاء أهل غزّة، فشعار "بدنا نعيش" لم يأتِ من فراغ، لأن من رفعه يعرف أن العالم حرمه حق العيش.
"حماس" في وضع صعب، لكنها ليست المستهدفة في حرب الإبادة، بل الشعب الفلسطيني ككل، وآن الأوان ليس فقط لتحمّل الحركة مسؤوليتها، بل أن يتحمّل الجميع مسؤولية المشاركة في اتخاذ قرارات بعيدة عن الحسابات الفئوية والتنافس التافه على سلطة بلا سلطة. ووضع "حماس" صعب، ليس لأنها لا تريد إيقاف الحرب، بل لأن إسرائيل لا تريد ذلك، هي لحظة لا تحتمل المزايدة، وإنما مشاركة "حماس" بنية صادقة في قرارات مصيرية بعيدة عن الفئوية.
كان يوم غادرت المقاومة الفلسطينية بيروت، وغدت هي ومقاتلوها في تونس بعيداً عن فلسطين، حزيناً، قد لا تدركه الأجيال الجديدة. وعليه، لا يمكن التنازل عن حق الشعب الفلسطيني بالمقاومة، بما فيها الخيار المسلح، ولكن لا بد من فكر استراتيجي، فالتعامل مع الحصار لا يقتصر على غزّة، وإنما ينهض بالعمل السياسي من أجل فلسطين في كل مكان. ولن يتحقّق هذا دون التخلي عن المصالح الفئوية، لأنها استهتار بأهل غزّة وحيواتهم، والقضية الفلسطينية نفسها.
