ليس صحيحاً أن المذابح الطائفية في اللاذقية وطرطوس كانت حتمية بالنظر إلى ما راكمه نظام الأسد من مظلوميات طائفية وكراهية بين السوريين 53 عاماً. لو كان البشر محكومين بالثأر إلى الأبد، وذاكرتهم ذاكرة فِيَلة لا تنسى ولا تُصالح ولا تغفر ولا تعقد اتفاقات ولا تسويات ولا تقدّم تنازلات، لكان الأوروبيون يتبادلون المذابح إلى اليوم انتقاماً لحروب المائة عام والثلاثين عاماً وحربين عالميتين، أوقعت ثانيتهما وحدها ما بين 60 و85 مليون قتيل. لو كانت المجازر الطائفية قَدَر السوريين كما يقول خبثاء في معرض تبرير قتل مسلحين تابعين للحكومة أو مليشيات حليفة لها 800 مدني غالبيتهم علويين بين يومي الجمعة والاثنين الماضيين، حسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، لما وقّعت السلطة ممثلة في الرئيس أحمد الشرع اتفاقاً مساء الاثنين مع قائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مظلوم عبدي لدمج أجهزة الإدارة الذاتية الكردية و"قسد" في الشرق السوري ضمن الدولة السورية أو ما تبقى منها، وفي مؤسّساتها المأمول ترميمها وجيشها الذي لا يزال تجمّعاً لفصائل.
والسلطة السورية، وإن لم تخطط لمجازر الساحل أو تأمر بارتكابها، فإنها تتحمل المسؤولية عنها، أولاً لأنها هي السلطة، وثانياً لأن من ارتكب الجريمة يتبع لها مباشرة أو بالواسطة. فلنتذكّر بعض ما فعلته وما لم تفعله السلطة خلال الأشهر الثلاثة الماضية: ــ أدارت البلد بحكومة من لون طائفي وعسكري وعقائدي واحد. ــ عيّنت محافظين من اللون المذهبي والعقائدي نفسه، معظمهم من النواة الصلبة المتشددة لهيئة تحرير الشام، حتى في مناطق لها هوية طائفية يناصبها الفكر التكفيري العداء وهي تبادله إياه، كاللاذقية وطرطوس. ــ حلت الجيش والشرطة بدل إطاحة قادتهما الملطخة أيديهم بدماء السوريين، والإبقاء على صغار الضباط والجنود فيهما، والنتيجة قتال على نمط "الفزعة" العشائرية في الساحل بلا قيادة ولا انضباط ولا هرمية ولا خطط، فصائل مستقلة تحارب فلول النظام ثم تقتل مدنيين وعلى طريقها تنهب وتعتدي. ــ صرفت عشرات الآلاف من الموظفين الحكوميين فأوجدت جيشاً من العاطلين من العمل ومن شباب علويين لا ينقصهم الشعور بالمظلومية ليرتموا فقراءَ في أحضان عصابات بقايا نظام الأسد. ــ لم تُحاسب أي مسؤول عن أحداث استفزاز طائفي واعتداءات متفرّقة حصلت في مناطق سكان سوريين علويين طوال الأشهر الثلاثة الماضية في حمص والساحل. ــ أحجمت عن تسمية رموز النظام الأسدي المطلوبين للمحاكمة لكي يكون واضحاً أن هؤلاء حصراً هم المعنيون بالمحاسبة، ولكي يصبح للآية "لا تزر وازرة وزر أخرى" ترجمة سياسية في الحالة السورية تبرئةً للعلويين من جرائم إرهابيين قتلوا وعذّبوا ودمّروا واستبدوا زوراً باسم طائفة حملوا اسمها. ــ لم تحدّد جدولاً زمنياً لإجراءات العدالة الانتقالية ولمحاكمة رموز النظام السابق، فلا تصوّر لديها لكيفية فعل ذلك، ولا جهاز قضائياً بتصرّفها، بما أن تسريح الموظفين وحل المؤسسات لم يستثنِ القضاة. ــ لم تستغل الترحيب الشعبي في اللاذقية وطرطوس بسقوط النظام، فلم تلجم الخطاب الطائفي التكفيري لأوساط محسوبة عليها وتعيش في كنفها. ــ لم تبعد أجانب الفصائل الجهادية في سورية معروف أنهم الأكثر تشدّداً وطائفيةً ودموية، وكان لهم دور بعضه مصوّر بالفيديو في مجازر الساحل.
هذا شيء من مسؤولية السلطة عن مجازر الساحل. أما إخبارنا عن إجرام "الفلول" وعن عددهم الكبير (أربعة آلاف مسلح كما أخبرنا محافظ اللاذقية ليس كبيراً بالمناسبة) وعن دور أجنبي ما في ما حصل، فإنه لا يقدّم جواباً لأي سؤال جدّي يتعلق بمحدودية الأفق السياسي الوطني والحكيم والخلّاق لدى السلطة في دمشق.
وكأنّه كان على مجازر الساحل السوري أن تحصل لكي يستعجل أحمد الشرع ومظلوم عبدي توقيع الاتفاق الذي سيكون تاريخياً في حال تنفيذ بنوده، لأنه سيحول دون اندلاع حرب أهلية أخرى ومجازر وكوارث وتقسيم واجتياح تركي. أيام ويظهر ما إذا كان أحد ما قد تعلم شيئاً من مجازر الساحل، فيعمل بحسن نية حتى نهاية العام (مدّة تنفيذ الاتفاق مع "قسد")، ويصدُق في اللجان المتفق عليها بين دمشق والقامشلي، ويضغط حقاً على تركيا لتترك السوريين عرباً وكرداً يعالجون مشكلتهم العويصة، وينفتح على إحقاق الأكراد في الدستور وفي تقاسم الثروة وفي المساواة الكاملة بالمواطنة والحقوق الثقافية والسياسية، ولا ينطلق في مفاوضاته بالاستعاذة من الشيطان في حال سمع كلمة فيدرالية أو لامركزية، ولا من رفض مسبق لتحويل اسم البلد من الجمهورية العربية السورية إلى الجمهورية السورية.
