براءة الروائي من الرواية

منذ ٢ أيام ٢٦

يكتب الروائيون، أو بعضهم، في الصفحات الأولى من أعمالهم الروائية قائلين: إن جميع الأحداث والشخصيّات في هذه الرواية من صُنع الخيال، وإن أيّ تشابه بينها وبين الواقع سيكون محض مصادفة.

في الغالب، لا يقتصر هذا البيان الذي يتصدّر الكثير من الروايات على ثقافة ما دون غيرها، ولكنّه يتعلّق بالرواية فقط من دون بقية الأنواع الأدبية. لماذا؟ لماذا يرغب الروائي في النأي بنفسه عن محتوى الرواية التي كتبها بنفسه؟

إنه القمع أولاً، والخوف أيضاً، والرغبة في التملّص، ببعض الدهاء والمراوغة من أعباء وتبعات النصّ المكتوب، ولكن لماذا أيضاً؟ لماذا نكتب ثم نسعى للتخلّص من العواقب المترتبة عن كتابتنا؟

على الرغم من اتجاه الرواية الحديثة إلى التشبّث باستقلالها عن المراجع الخارجية وسعيها للتبرؤ من الإحالات إلى هذا المرجع، فإن فنيّة الرواية ليست السبب الرئيس لمثل هذا الموقف أو نضال الروائي من أجل الحرية في الكتابة الفنية. بل السبب الرئيس يقع على عاتق الأنظمة السياسية المُستبدة الحاكمة، والكثير منها يتسم بسنّ القوانين التي تقيّد الحريات.

حضور ينمّ عن ثقة بالرواية أكثر من الثقة بالسلطة السياسية

وهذا ما فسّر أنَّ الرواية واجهت منذ تأسيسها مشكلات مع القضاء، وواجهت الحظر والمحاكمة مثل "مدام بوفاري" في فرنسا. يذكر الناقد الفرنسي إيف روتير في كتابه "مدخل إلى تحليل الرواية" (صادر عن وزارة الثقافة بترجمة شانتال جرجس 2024) أن معظم الروايات المرموقة في القرن الثامن عشر طُبعت سرّاً في فرنسا، أو في الخارج بسبب عسف القوانين التي تقيّد الحريات.

وبسبب تلك القوانين المتعسّفة فقط يُسجن الروائي أو يُنفى خارج بلاده. وثمة المئات من الأمثلة في ثقافات العالم، في الشرق والغرب، وفي الصين وأميركا اللاتينية، عن روائيّين اضطروا بسبب أعمالهم الروائية إلى مواجهة مثل تلك الأخطار، واختاروا النفي الطوعي، أو القسري، خارج بلادهم، كي يتجنبوا المعاقبة، أو يتيحوا لأنفسهم حرية التعبير: غائب طعمة فرمان، وعبد الرحمن منيف، وإيزابيل ألليندي، وأوغستو روا باستوس، الذي ألف أغلب أعماله الروائية، مثل "ابن الإنسان"، و"أنا الأعلى"، في المنفى، إضافة إلى ماريو بينديتي صاحب رواية "الهدنة"، وغيرهم كثيرون.

صحيح أنَّ الكتّاب الآخرين لم يسلموا من عنف السلطة، وأن عدداً من الشعراء والمسرحيّين اضطروا إلى مغادرة بلادهم خوفاً من عسف الأنظمة، مثل عبد الوهاب البياتي وناظم حكمت وبرتولت بريخت، لكن عين الرقابة وأغلال القوانين المقيّدة للحريّات كانت تقصد الرواية والروائيين، بحيث كانوا الكتلة الكبرى من بين الكتّاب المنفيّين خارج أوطانهم، وبحيث إننا لا نقرأ لأي مسرحي أو شاعر مَطلعاً يتبرأ فيه من نصوصه في صدارة كتابه.

امتد الموقف من الرواية على مساحة الكرة الأرضية، وهي ظاهرة غريبة للغاية تجاه أحد الأنواع الأدبية من دون غيره من أشكال التعبير. ومع ذلك، فقد بات هذا النوع المراقب دائماً، المطارد في أغلب البلدان ذات أنظمة الحكم المستبدة، المحظور أحياناً، والموغل في قضايا المجتمع والسياسة، النوع الأكثر حضوراً في تاريخ القراءة، وهو حضور ينمّ عن ثقة القرّاء بالرواية وما تقوله أكثر من ثقتهم بالسلطة السياسية، أو قوانين المجتمع.

 

* روائي من سورية

قراءة المقال بالكامل