بسام مرتضى (1/ 2): "في فيلمي شيءٌ عالقٌ يستحيل التخلّص منه"

منذ ٢ شهور ٣٩

تشي أفلامه بأنّ لديه همّاً عاماً، يمتزج مع همّه الخاص. مؤكّدٌ أنّ نشأته لعبت دوراً: نضال والديه، سجن الأب بعد تضامنه مع عمّال الحديد والصلب بمصر عام 1989، وكان لا يزال طفلاً. سنوات غياب ربّ الأسرة حمَّلته مسؤولية كبيرة: رعاية صغير جديد وافد إليها في ظلّ سفر كثيرٍ للأب لاحقاً. هناك عبء مرض الأم، خاصة في أيامها الأخيرة، وتفسيراتها وتبريراتها.

كلّ هذه الأشياء تناولها المصري بسام مرتضى بعمقٍ لا يتخلّى عن المساءلة، بشفافية منسوجة باشتغالات بصرية سينمائية، في وثائقيّه الطويل "أبو زعبل 89" (إنتاج مصري ألماني مشترك، 2024)، الفائز بثلاث جوائز في الدورة الـ45 (13 ـ 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2024) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي"، والمعروض في الدورة الـ37 (14 ـ 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2024) لـ"مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية (إدفا)"، وفي الدورة الـ35 (14 ـ 21 ديسمبر/كانون الأول 2024) لـ"أيام قرطاج السينمائية"، فكان لقاء معه فيها.

له "الثورة خبر" (2012)، وأفلام وثائقية قصيرة، كـ"البحث عن غزالة" (2019)، وقبله "في انتظار العائد من الجبل" (2015)، عن أزمة عمّال محاجر محافظة المنيا في صعيد مصر، إذْ كانت المحافظة تزعم أنّ عددهم ثلاثة آلاف، وأنّ لجميعهم تأمينات صحية واجتماعية، بينما يؤكّد العمّال أنّ عددهم يبلغ 45 ألفاً، وأنْ لا أحد منهم يمتلك تأميناً، وأنّ التأمينات التي سجّلها أصحاب المحاجر وهمية.

الوثائقي قصيرٌ ومؤلم، ينبش جراح هؤلاء العمّال. فيه قسوة الحياة التي أرغمتهم على اختبار عمل يلتهم أعضاء أجسادهم في غفلة منهم. فيه أيضاً لحظات لا تُحتمل: وجع الأمهات، وحكي الأطفال عن كيف ترى يدك تطير أمامك، بينما نافورة دماء تنفجر فيها؛ ساق تُقطع من دون الشعور بها، إذْ تراها تتدحرج أمامك على الحَجَر الأبيض. المُفزع أيضاً أنّ الأطفال الصغار يتحدّثون عن تلك الأمور كأنّها عادية، والقسوة ضرورة حتمية للشعور بفداحة القضية. بعدها، يُصوّر مرتضى تظاهرات العمّال، واشتباكهم مع رجال الأمن، والوعود غير المُنفّذ منها إلا واحد غير مكتمل يخصّ النقابة.

 

(*) لك سيناريو روائي طويل عن شخصية غزالة، لاعب كرة القدم، لفيلم قصير. إلى أي مرحلة وصلت؟

للأسف، المشروع مُتوقّف لأسباب لوجستية.

 

(*) ورقابية؟

كلا. سبب الإنتاج عقبة أهم أمام المشروع، الذي أتحمّس له الآن أكثر: روائي طويل عن رجلين مصري ولبناني، في لحظة ما في اجتياح بيروت (الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 ـ المحرّرة). رجلان وحدهما. حصلت على الفكرة من باحث يعمل على دراسة، فأعجبني هذا الخط الدرامي. نعمل معاً على كتابة السيناريو. يُعجبني في الفكرة أيضاً أنّها تُتيح لي تحقيق ما أحبّه: مزج الأرشيف بمشاهد روائية، فأعيد بناء لقطات الوثائقي بصرياً.

 

(*) ما الأولوية عندك: التمثيل، إذْ لك أدوار تمثيلية، أم الإخراج؟

أمثّل فقط في أفلام الأصدقاء، على أنْ أتمكّن من تأدية الشخصية. تقريباً، نحن نتحرّك في أفلام بعضنا، لكنّي أحبّ إكمال المشوار في الإخراج.

 

(*) ما اللحظة التي جعلتك تُقرّر أنْ تُصبح صانع أفلام؟

أحبّ السينما منذ الطفولة، وأشاهد الأفلام بجنون. عندما أفكر في لحظة قراري أنْ أكون صانع أفلام -استغرقتُ وقتاً بعد اكتشاف هذه الرغبة، إذْ لم أبدأ مباشرة- أكتشف أنّها حاصلة عند مشاهدتي "المدينة" ليسري نصر الله و"جنة الشياطين" لأسامة فوزي. شعرت بأنّي لم أكن أحب الأفلام كفن فرجة فقط، بل أنْ أكون صانع أفلام كهذه. أريد تحقيق مثلها، لذا، بدأت دراسة السينما منذ منتصف الألفية.

 

(*) درست السينما في "المعهد العالي للسينما"، أم دراسات حرة؟

دراسات حرة. كنت في الدفعة الأولى المتخرّجة في "معهد الجزويت" بالقاهرة، التي تأسّست عليها "مدرسة السينما". هذه خرّجت دفعات تالية، ولا تزال تُخرّج أجيالاً أخرى إلى الآن. لها فرع بالإسكندرية، التي تخرّج فيها مخرجا "رفعت عيني للسما" (ندى رياض وأيمن الأمير ـ المحرّرة). ثم درست في "أكاديمية رأفت الميهي"، وحصلت على دبلوم بالدراما ودراسات العنف في بيروت. درست التمثيل عاماً كاملاً في "استديو الممثل" (2006)، مع أحمد كمال وسيد رجب وأحمد مختار. تصادف أنّ غالبية الدفعة مخرجون ومؤلّفون وأطباء نفسيون. كنا نريد فهم الممثل، وكيف يعمل. كنا دفعة زاهدة في التمثيل. هذا ساعدني على تطوير نفسي مخرجاً، وعلى فهم إدارة الممثل، وعلى أنْ أعي وأدرك ما الذي يستثيره، وما الذي يُطفئه.

 

 

(*) عام 2012، أنجزت وثائقياً طويلاً بعنوان "الثورة خبر!". عنوان يشي باستخفاف من الثورة أو استهانة بها، ولو قليلاً. خاصة لمن لم يُشاهده.

فعلاً، فيه مساحة من هذه اللحظة الاستفزازية. هذا السؤال موجود فيه: هل الثورة خبر؟ هؤلاء الشباب الصحافيون الستة مُضطرّون للتعامل مع الثورة على أنها خبر، لكنّهم في كلّ الفيلم (54 دقيقة) يحاولون اختبار مشاعرهم على أنّ الثورة أكثر من خبر، أو أنّها ليست مجرّد خبر بالنسبة إليهم، لذا وضعتُ علامة تعجّب في العنوان.

الفيلم أول إنتاج لـ"المصري اليوم"، وظلّ الإنتاج الوحيد لها. عُرض في قسم خاص عن الثورة في "برليناله 2012". كنت من مؤسّسي وحدة إنتاج الفيديو في "المصري اليوم"، ومسؤول عن تدريب صحافيين عديدين على كيفية استخدام الصورة والفيديو في جزء من الحكي/السرد. بعد 2011، شعرت بأنّ عندي حدوتة عنهم، أريد العمل عليها: كيف تأثّروا بالحدوتة؟ كيف تحرّكوا وتفاعلوا معها؟ أقنعت الجريدة بإنتاجه.

 

(*) حديثك عن مشروعك الجديد يشي بأنّك تُفضّل الروائي. هل انخراطك في الوثائقي مُؤقّت بسبب طبيعة الأفكار؟ أمْ أنّك، كمصريين عديدين، اتّخذت الوثائقي جسراً للعبور إلى الروائي؟

حقيقة، أحب صنع السينما الوثائقية أيضاً. أشعر بأنّي أريد تدريب نفسي خطوة خطوة في التجريب، ومزج الأنواع الفيلمية. كلّ الوقت أعمل على أفلامٍ قصيرة ووثائقية، وأحياناً على أفلامٍ ترويجية لمؤسسات، أو للشركة التي أسّستها مع قسمت السيد، والتي تُنتج لآخرين، كهالة جلال و"من القاهرة".

أحاول اختبار مهاراتي لأرى كيف يُمكنني التعبير عن هذا. بعد "أبو زعبل 89"، القاسي عليّ بعض الشيء، شعرت بأنّي أريد الخروج منه ونسيانه لوقت. أنْ أنال راحة، أو فاصلاً زمنياً من الوثائقي، لأنّ فيه ثقلاً على الروح، لذا أنفصل عنه بالعمل على روائيّ. حتى في هذا، أذهب إلى الأرشيف والحوادث الشخصية. مع ذلك، أشعر بأنّي أريد الخروج إلى روائي. بعده، يمكن لي العودة إلى الوثائقي.

 

(*) أفهم من حديثك أنّك بعد كل هذا الحكي في الفيلم لم تتطهّر تماماً؟

(لحظة تفكير وتساؤل) تطهّر من ماذا؟ من صنع الفيلم؟

 

(*) أقصد التطهّر من المشاعر الثقيلة التي تتراكم على صدرك وروحك، والتي تحدّثت عنها في الفيلم.

كلا. نهائياً. أشعر بأنّ هناك شيئاً ما في "أبو زعبل 89" له علاقة بالشعور. شيءٌ ثقيل على أنفاسي، يجري نقله بقدر ما، بشكل ما، إلى الناس. شيءٌ ما عالق، يستحيل التخلّص منه.

 

(*) رغم أنّ الشائع أنّ الحكي/الكتابة يُطهّران المرء من هذا الشعور.

صعبٌ جداً التخلّص منه بالكامل. لكنْ، يُمكن مشاهدته بأشكال مختلفة. يمكن تطويره بشكل مختلف. أنْ يُعرّفك على نفسك بشكل مختلف. زيارته ولمسه وفهمه والتعامل معه يُمكنها التحوّل إلى شيء آخر. ليس هناك تطهّر كامل. إنّه جزء من فهم ذواتنا وضعفنا وتطوّرنا كبني آدميين. من هنا، تطوّرنا كفنانين.

 

(*) هناك في الفيلم تصوير يعود إلى سنوات. متى قرّرت صنعه؟

فكرة مشروع أبو زعبل قديمة، أحملها معي. لكنّي كنت أشعر، كلّ الوقت، بأنّها غير جاهزة. ربما للأمر علاقة بأمور إنتاجية، أو بمهاراتي التقنية. أيضاً كنت مشغولاً بأعمال أخرى. ربما لم أكن جاهزاً للبدء في المشروع، لأنّي لم أكنْ أعي تماماً ما أريد قوله.

في الأفلام الوثائقية، لكلّ مخرج سؤال يُريد طرحه. ربما لم أكن قادراً تماماً على تحديد السؤال، لذا كنت أُعطِّل الفيلم دائماً، وأعمل على مشاريع أخرى. عام 2017، بدأت الاقتراب من العمر الذي شهد دخول والدي السجن، مع زيادة المرض على أمي، وخوض تجربة المرض معها، وهذه فترة أمضينا فيها معاً سنوات عدّة. التصق أحدنا بالآخر للغاية. أثناء ذلك، كنت أبتعد وأنشغل بأشياء، فأشعر بالذنب.

هذه التجربة جعلتني، ربما لأول مرة، أفهم وأدرك ما الذي أريد أنْ أحكي عنه، وما السؤال الذي أريد طرحه، ولماذا هذه "الحبسة" التي مرّ بها والدي أثّرت فيه جداً. كلّ الوقت، لم أكن أعي لماذا أنا مشغول بهذه الحدوتة. أقصد في لحظات الانهيار الكبرى، كيف نتصرّف نحن. من هنا، بدأت الذهاب إليهما، والتحدّث معهما. بدأت أشرح لهما الفكرة، وأوضّح لهما أنّ الفيلم لن يكون تلفزيونياً، يحكيان فيه عن تجربتهما، لأنّي لم أكن أريد الظهور كأبطال. في أسئلة أريد التعامل معها، وأريدهما أنْ يحكيا لي. بدأنا الرحلة معاً عام 2017. التطوّر الكبير باعتقادي كامنٌ في نيل المشروع "جائزة روبرت بوش للإنتاج الدولي المشترك"، في مهرجان ألماني عام 2019.

 

(*) بما تمثّلت الصعوبة الإنتاجية؟

كنت أريد التصوير بالخام، وخوض تجربة المخاطرة في الطباعة. ربما الخام يحترق، أو لا يكون صالحاً، فنُعيد التصوير مجدّداً. الاقتراح أنْ نصوّر ديجيتال، وألا نُضيّع الميزانية على الخام، ثم نعمل تأثيرات بصرية. أصررت على التصوير بالخام. لمدير التصوير ماجد نادر معمل تحميض، فكان يُحمِّض بنفسه. الـ"بوست برودكشن" في ألمانيا، وهذا لصالح الفيلم.

قراءة المقال بالكامل