في عالم يتطوّر فيه الفن البصري بوتيرة متسارعة، يبرز الفنان الفلسطيني بشير مسعد واحداً من أبرز الأصوات الإبداعية التي تدفع حدود الفن إلى آفاق جديدة. من شغفه بفنّ التحريك (الأنيميشن)، إلى ريادته في استخدام الإسقاط الضوئي Light Projection والليزر، يواصل مسعد ابتكار تجارب بصرية آسرة.
"منذ أن بدأت العمل في مجال الإسقاط الضوئي، أدركت أن العمارة ليست مجرد جدران صامتة، بل قصص محفورة في الحجر، تنتظر من يعيد إحياءها. في فلسطين، المباني القديمة ليست مجرد منشآت، بل شواهد على تاريخ طويل، تتنفس حضارتها في كل تفصيلة، في كل قوس حجري، وفي كل نافذة تروي حكاية زمن مضى لكنه لا يزال ينبض بالحياة"، يقول مسعد.
عام 2025، حصل الفنان على فرصة استثنائية من خلال مشروع "مشكال"، وهو برنامج إقامة فنية ممول من الاتحاد الأوروبي، بإدارة معهد غوته والمجلس الثقافي البريطاني. وقد شكل هذا المشروع مغامرة فنية فريدة، دمج فيها بين تقنيات الإسقاط الضوئي والفيديو، مستخدمًا مباني أثرية في بلدة قلنديا القديمة منصةً لعروضه. بلدة ما زالت تحتفظ بجمالها المعماري وروحها التراثية الأصيلة.
يقول مسعد إن هدفه لم يكن فقط تقديم عرض فني، بل "إعادة الحياة إلى هذه المباني، ومنح الحجر الفلسطيني صوتًا بصريًا يعكس تاريخه العريق. العمارة الفلسطينية قديمة بملامحها، لكنها حيّة بتفاصيلها. وعندما تسقط الإضاءة على الواجهات، تضيف لها بُعدًا جديدًا، فتتحوّل إلى لوحات متحرّكة تنطق بالضوء والظل".
التفاعل مع هذا الإرث المعماري كان مذهلًا، يضيف مسعد، ليس فقط بالنسبة له باعتباره فنانًا، بل أيضًا لأهالي البلدة، وخصوصًا الأطفال الذين وقفوا مبهورين بما شاهدوه: "أن ترى دهشة الناس وهم يكتشفون مدينتهم بشكل مختلف، وكأنهم يرونها للمرة الأولى، هو شعور لا يوصف. بالنسبة لهم، لم تكن هذه العروض مجرّد أضواء، بل إعادة اكتشاف لذاكرتهم، لامتدادهم الزمني، ولحكاياتهم المتوارثة التي تربط الماضي بالحاضر وتفتح نافذة على المستقبل".
يرى مسعد أن العمارة الفلسطينية ليست مجرد تصاميم وهياكل، بل هي سردية شعب، وذاكرة حضارية، وإرث يجب الحفاظ عليه. ويأمل بأن تستمر هذه العروض، ليس فقط في فلسطين، بل في كل مكان يحمل بين جدرانه روح الماضي ويحتاج إلى من يسلّط الضوء عليه ليبقى حيًا في الذاكرة الجماعية.
كما يؤمن بأن فنّ الإسقاط الضوئي ما زال في مراحله الأولى في العالم العربي، لكنه يحمل طاقات إبداعية هائلة. فالفيديو آرت والليزر لايتينغ ليسا مجرد أدوات تقنية، بل وسيلتان للتعبير الفني والتجريبي. ومن خلال مشاريعه، يسعى مسعد إلى إدخال هذا الفن في المشهد الثقافي الفلسطيني وتعريف الأجيال الجديدة به، وهو ما تجلى في معرضه الأول "أصداء الضوء"، الذي ربط بين الماضي والحاضر عبر الضوء والظل.
"أصداء الضوء" لـ بشير مسعد: حين تتكلّم الجدران
في بلدة قلنديا القديمة، حيث تتنفس الحجارة حكايات تاريخية، جاء مشروع "أصداء الضوء" ليكشف جمال الحجر الفلسطيني وروحه المتجذّرة في الذاكرة. العرض، الذي كان جزءًا من برنامج "مشكال"، لم يكن مجرّد تجربة بصرية، بل حالة فنية تفاعل فيها الضوء مع العمارة، ليحكي قصص المكان وسكّانه ويوثق معاناة الفلسطينيين اليومية بطريقة مؤثّرة ولافتة.
خلال التجربة، لاحظ مسعد أن تفاعل الضوء مع الحجر الفلسطيني القديم يخلق أثرًا مختلفًا تمامًا عن البنايات الحديثة. "الضوء حين ينساب على هذه الجدران يكشف تفاصيلها ويمنحها حياة جديدة. تصبح كأنها تروي تاريخها بصوت صامت لكنه مدوٍّ"، يقول الفنان. الجدران التي اعتاد سكّان البلدة رؤيتها كل يوم، تحوّلت فجأة إلى لوحات فنية نابضة، جعلتهم يعيدون اكتشافها بعين مختلفة.
لكن العرض لم يكن فقط ضوءًا، بل تجربة سمعية أيضًا. إذ استخدم مسعد أصواتًا من البيئة الفلسطينية: الأذان من المآذن، أجراس الكنائس، ضجيج الأسواق، صراخ الأطفال، وحتى ضوضاء الأزمات التي تعصف بالبلاد. جميعها دمجت مع الإسقاطات الضوئية لتخلق تجربة حسّية كاملة تعكس نبض الحياة الفلسطينية، بكل ما فيها من جمال وقسوة.
الأحجار تتحوّل إلى شهادة بصرية
من أكثر اللحظات تأثيرًا في المعرض، بحسب مسعد، كانت عند إسقاط مشاهد من الحياة اليومية الفلسطينية – كالمواجهات مع الاحتلال أو لقطات من نشرات الأخبار – على كومة حجارة ضخمة مرمية قرب البلدة. فجأة، تحولت هذه الكومة، التي كان الجميع يمرّ بجانبها دون التفات، إلى رمز مأساوي مشحون بالمعاني. عرض بسيط تحوّل إلى مرآة تعكس واقعًا مليئًا بالقهر والحنين، وصار مشهد الحجارة المتراكمة محفورًا في الذاكرة كجزء من روايتنا البصرية الجماعية.
يقول مسعد إن ما يميّز هذا الفن هو أنه لا يقتصر على الفنانين، بل يفسح المجال لمشاركة الجميع. العرض لم يكن أحادي الاتجاه، بل تفاعل معه الأهالي، من أطفال وعائلات وكبار سن، رأوا تراثهم يُعرض على جدران بيوتهم بأسلوب لم يتخيلوه من قبل. جال مسعد في أزقة البلدة، سمع القصص، تعرّف إلى البيوت التي رممتها مؤسسة "رواق"، وأسقط على جدرانها صورًا من الأرشيف الفلسطيني، ممزوجة بأصوات الأهالي وحكاياتهم.
في أعماله، لا يكتفي بشير مسعد بإبهار العين، بل يستحضر الذاكرة ويوقظ الحواس، ليحوّل الضوء إلى لغة جديدة تروي حكاية المكان... وشعبه.
ما يجعل التجربة في هذا المجال مميزة هو ارتباطها بالواقع الفلسطيني، حيث كل حجر وكل زقاق يحمل قصة. في فلسطين، الفن ليس ترفًا، بل هو أداة للمقاومة، للتوثيق، ولإبراز الهوية الفلسطينية. فالمعاناة اليومية التي نعيشها، والتي قد تكون مأساوية في لحظتها، تتحول إلى فن يُحكى للعالم بأساليب حديثة، ومنها الإسقاط الضوئي الذي يدمج بين التكنولوجيا والعمارة والذاكرة.
نحو انتشار أوسع للفن الضوئي
يواصل مسعد حاليًا العمل في مجال الإسقاط الضوئي والليزر لايتنغ، بالإضافة إلى تحريك الرسوم والموشن غرافيكس في "مصنع الرسوم المتحركة" في فلسطين. ويسعى لتوسيع نطاق هذا الفن، وتعريف المزيد من الناس به، كما يعمل على مشروع جديد يتضمن توثيق الحياة اليومية في شوارع مدينة رام الله، ودمج لقطات الأرشيف الفلسطيني معها لعرضها داخل فلسطين وخارجها.
يتمنى مسعد أن يصل إلى مرحلة يستطيع فيها تنفيذ عروض ضوئية على مبانٍ فلسطينية كبرى، لتكون هذه العروض نافذة ثقافية توصل قصص فلسطين للعالم. هذا الفن يمتلك قدرة هائلة على الجمع بين الناس، سواء كانوا فنانين أو عائلات أو حتى أطفالًا يروون قصصهم البسيطة بطريقة بصرية.
يؤكد مسعد أن التجربة الفلسطينية غنية، وكل فنان لديه فرصة لإيصال صوتها من خلال فنه. سواء كان ذلك عبر الضوء، أو الصوت، أو أي وسيلة أخرى، المهم أن نبقى نحكي قصصنا، لأن العالم بحاجة لسماعها، ولأن هويتنا تستحق أن تظل مضيئة.
رغم الظروف الصعبة التي تمر بها فلسطين، يظل مسعد مؤمنًا بقوة الفن وتأثيره. فرغم الحرب والتحديات الاقتصادية، يزداد الإقبال على العروض المرئية المتناسقة مع الموسيقى والإضاءة، ما يثبت أن هذا النوع من الفن ليس مجرد ترف، بل أداة تعبيرية يمكنها ملامسة الجمهور بعمق.
