مع أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عاد في اليوم الأول لولايته الثانية إلى توجيه رسائل توسعية نحو بنما وخليج المكسيك وغرينلاند، وقضايا أخرى، إلا أن لحلفاء أميركا الأوروبيين عبر الأطلسي أسبابهم للقلق من سنواته القادمة.
الشائع أن الرجل "لا يمكن التنبؤ بسياساته"، لكن ليس هكذا ينظر إليه الأوروبيون في قراءة عناوين رسائله وفريقه، وسط خشية أن يخلخل ذلك أسس التحالف التاريخي مع أميركا.
العلاقات التجارية.. مصاعب استرضاء ترامب
علاقة الاتحاد الأوروبي التجارية بأميركا ليست ثانوية، وبالتالي ترويج ترامب لفرض تعريفات جمركية بين 10-20% على سلع القارة، وهي أعلى على الصين والمكسيك وكندا، تضعهم في مأزق. فلدى ترامب وفريقه فلسفتهم حول أن فرض هذه التعريفات هدفه مكافحة العجز التجاري الأميركي مع أوروبا الذي بلغ في 2022 نحو 131 مليار دولار، و208 مليارات في 2023.
والرسالة الأخرى المقلقة هي في رغبته فرض إكراه اقتصادي على عضو النادي الأوروبي، الدنمارك، لترويضها من أجل التنازل له عن جزيرة غرينلاند. وفرض حرب رسوم جمركية على سلع كوبنهاغن يعني أيضاً فرضها على جميع سلع الاتحاد الأوروبي من النوع نفسه، باعتباره اتحاداً جمركياً. على هذه الخلفية يبرز تيار أوروبي مناد بعقد صفقات مع ترامب. ويشمل ذلك إيطاليا في عهدة القومية المتشددة جورجيا ميلوني والمجري فيكتور أوربان، وغيرهما في شرق وغرب القارة. وفي مقابله ثمة تيار يدعو إلى بحث عن أسواق أخرى غير أميركية، بل وعن أنظمة بديلة للنظام التجاري الدولي خلال سنوات حكم الرجل. فهم ينظرون بقلق إلى إمكانية تطبيق ترامب رسوماً جمركية على الصين بحدود 60%، حيث ستضطر بكين للبحث عن أسواق أخرى على حسابهم.
ولدى الأوروبيين تجربة سابقة مع ترامب، عندما طبق رسوماً كبيرة على الفولاذ والألومنيوم. حينها سارع رئيس المفوضية السابق جان كلود يونكر إلى ترامب بوعود شراء المزيد من الغاز وفول الصويا الأميركيين، لقاء تجميد تلك الرسوم. وعودته الآن إلى سياساته الحمائية قد يدفعه نحو حرب تجارية مع الحلفاء الأوروبيين. ورغم عدم رغبتهم بالحرب فقد جهزوا قوائم لسلع أميركية يمكن أن تستهدف.
كما عبرت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين مؤخراً عن رغبة الاتحاد الأوروبي بشراء المزيد من الغاز الأميركي المسال، في محاولة عقد "صفقة" مع ترامب. أضف إلى ذلك اقترح أوروبيون آخرون بأنه كجزء من الميزانيات العسكرية الأوروبية التسليحية المتنامية يمكن أيضاً لهم شراء المزيد من الأسلحة الأميركية. هي محاولات لاسترضاء ترامب وداعميه في مجمعات صناعية أميركية صاحبة نفوذ وتأثير.
مع ذلك، تضع هذه التحديات وحدة الموقف الأوروبي في موضع اختبار، وخصوصاً مع تفضيل ترامب ومعسكره التعامل مع قارة غير موحدة. وأفرزت الأسابيع الماضية بعض الامتعاض الأوروبي من محاولات الثري إيلون ماسك التدخل في شؤونهم، لتدعيم اليمين القومي المتشدد على وجه الخصوص، كما في الحالتين الألمانية والبريطانية، إضافة إلى علاقته الجيدة بيمين إيطاليا المتشدد.
ذلك إلى جانب الخشية من تداعيات قيام حرب تجارية بين الصين وأميركا ووضع أوروبا بين طرفين يحاولان الاستفادة منها بأكبر قدر.
الانسحاب من "باريس المناخية"... أعباء على القارة
يشكل انسحاب ترامب مجدداً من اتفاقية باريس المناخية عبئاً آخر في علاقة الطرفين. فترامب يريد المزيد من استخراج الوقود الأحفوري الأميركي، ومنح تصاريح جديدة للنفط وتكنولوجيا التكسير الهيدروليكي المثيرة للجدل. ذلك، مع غيره، سيؤثر عموماً على الاهتمام الأوروبي والعالمي في مسألة تخفيض الانبعاثات الكربونية، المقررة أن تصل وفق الأهداف الأوروبية إلى نحو 90% بحلول عام 2040، مقارنة بما كانت عام 1990، واستناداً إلى اتفاقية المناخ في الأمم المتحدة لعام 1992. وفي حين سيحظر الاتحاد الأوروبي السيارات ذات محركات الاحتراق الداخلي اعتباراً من 2035 فيبدو أن ترامب سيذهب نحو إلغاء المعايير الخاصة بالسيارات النظيفة.
ويؤثر التخلي الأميركي عن أهداف المناخ العالمي على توزع المهام المتعلقة بدعم الدول النامية من أجل التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري وخفض الانبعاثات وتمويل صندوق الخسائر والأضرار، وهو ما سيضغط ربما على تمويلات الأوروبيين، ذلك قبل قمة المناخ في البرازيل (كوب30) العام الحالي.
الناتو وأوكرانيا.. جيوب أوروبا أولى
يزيد تعقد العلاقة عبر الأطلسي في عهدة ترامب، وإدارته المحافظة ومجمعات المصالح، من ارتفاع نبرة تغييب موجبات التدخل الأميركي لحماية القارة، كما فعلوا في الحرب العالمية الثانية. الرجل لا يخفي رغبته في فرض إنفاق دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) على القضايا الدفاعية، 5% من الناتج المحلي الإجمالي. وذلك ما سيتضح في قمة الحلف بلاهاي هذا الصيف. وقد كانت النسبة في فترته السابقة 2%. وتلك قضية تثير حفيظة بعض الأوروبيين، وفي مقدمتهم الألمان. أبعد من ذلك فإن ما يثير القلق الأوروبي أن تصريحات ترامب العام الماضي بدت مرحبة بمهاجمة روسيا لدولة عضو في الناتو إذا لم تنفق المزيد على الدفاع تحت سقف الحلف.
وعلى مستوى الحرب الأوكرانية يشعر بعض الأوروبيين باستخفاف ترامب بدور بلاده والعلاقة عبر الأطلسي. هو يريد رؤية سلام بين كييف وموسكو، وخلال وقت وجيز، كما صرح مبعوثه الخاص إلى أوكرانيا الجنرال المتقاعد كيث كيلوج. ولم يخف ترامب أنه سيبحث مسألة عقد اتفاقية سلام مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. مشدداً على ضمانة ألا تنضم كييف إلى الناتو، ووجوب تنازلها عن بعض الأراضي لروسيا.
ما يعنيه ذلك للأوروبيين هو إمكانية إبطاء الأميركيين تسليح أوكرانيا ودعمها مالياً، وفتح نقاش عن تحويل قوات الاتحاد الأوروبي إلى قوات حفظ سلام بين خطوط روسيا وأوكرانيا القتالية، في وقت تصر فيه موسكو على استبعاد أوروبا من المفاوضات وحصرها بواشنطن وكييف.
كذلك يريد ترامب لأوروبا أن تتحمل وحدها دعم أوكرانيا، وهي التي قدمت لها من تعهداتها البالغة 241 مليار يورو نحو 125 مليار (أميركا قدمت 88 ملياراً من أصل تعهد بـ119 مليار يورو).
إذاً، التخلي الأميركي عن أوكرانيا يقدم إشارة سيئة للطبقات الأوروبية الحاكمة، إلى جانب إشارة إلى إمكانية تخلخل علاقتها الراسخة بواشنطن. فمع تنامي الرفض الشعبي الأوروبي لتورط بلادهم في أوكرانيا، وتقدم دعمهم اليمين المتشدد، بسبب إرهاق الحرب لجيوبهم، يمكن لترك أوروبا وحيدة أن يعزز الانقسامات الوطنية ويؤثر بمستوى انخراط القارة الجماعي في أوكرانيا.
