بول غيراغوسيان في بعبدا

منذ ١ شهر ٣٩

استقبل الرئيس اللبناني المنتخب، جوزاف عون، الأربعاء الماضي، في القصر الرئاسي، رولا دشتي، المديرة التنفيذية للإسكوا (لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا). وما يستوقفنا ليست همّة الرئيس الجديد الذي بدأ عمله من دون إبطاء، بل اللوحة التي تظهر في صورة اللقاء، وهي خلف المسؤولة الأممية، وعلى الأغلب أنها للتشكيلي الفلسطيني-اللبناني بول غيراغوسيان وإنْ لم تكن فإنها تحمل أسلوبه، خصوصاً لوحاته في حقبة الثمانينيات، التي تصوّر الأجساد المتطاولة، المتراصة، مبهمة الرؤوس، بلا وجوه، وضربات ريشته التي تذكر بفان غوغ غير أنه معاصر.
كل شيء يتعلق بغيراغوسيان، يستوقف العارف والدارس والمنشغل بالثقافة العربية في النصف الثاني الذهبي من القرن العشرين، وليست أرمينيته أيضاً التي تعتبر مكوّناً تأسيسياً في شخصيته، بل حتى المصعد الذي التهم إحدى رجليه منتصف السبعينيات.
فنان مدهش، رائد، وعابر للهويات الضيقة أو المحلية التي شكّلت لاوعيه وينابيع تشكيلاته، وليس من التطرف في شيء إطراء ذلك على الرئيس اللبناني الذي اقتنى إحدى لوحاته وعلّقها على جدار إحدى قاعات قصر بعبدا.
هل هو جوزاف عون؟ لا أظن، فالرجل حديث عهد في المكان، ولو كان فهذا يعني أنه لم يُعن بنقل بعض متعلقاته الشخصية إلى مكان عمله الجديد، قدر عنايته بلوحة لغيراغوسيان، ولو كان هذا صحيحاً فسنكون أمام رئيس عربي بذائقة رفيعة، وبانشغالات واهتمامات متعددة، وهو ما قد لا يتوفر عليه عون لا لشيء ولكن لعسكريته التي قد تفرض عليه تنحية الانشغالات الثقافية أو الفنية في العلن على الأقل كي لا تعتبر نقطة ضعف، ليس لأن كاتب المقال يفترض عدم وجود هذه الانشغالات لديه.
فمن هو الرئيس اللبناني الذي فعلها؟ ميشال عون؟ لا أظن، إلياس الهراوي؟ لا أظن، سركيس؟ ربما، وفي ظني أن المؤسسة التي تحمل اسم غيراغوسيان وتُعنى بإرثه، وهي تتمتع باحتراف تُرفع له القبعات، تستطيع في البداية التثبت من اللوحة وما إذا كانت للفنان أم لا، خاصة أن ثمة لوحات مزوّرة تحمل توقيعه، وإذا كانت له ففي مقدورها تقصي تاريخ اقتنائها، وما إذا كانت بيعت لقصر بعبدا أم كانت من مقتنيات أحد رؤسائه الشخصية، وفي غمرة خروجه من القصر في بلاد يخرج فيها الناس من أماكن أعمالهم شبه مطرودين فلا يرغبون في تذكرها لاحقاً، تركَ اللوحة التي ابتاعها بماله أو أُهديت إليه لخليفته، وهو لا يعرف أنه ترك وراءه إرثاً من البهاء والإبداع كان يميّز بلاده في حقبة مفصلية من تاريخ المنطقة، وأهدرتها بمجانية تثير الغضب. 
إذا تأكد أن اللوحة لغيراغوسيان، وهي تحمل أسلوبه كما سبق القول، فإنها تمثّل قيمة مُضافة لمن اقتناها في بعبدا أياً كان، وتذكرنا وتذكر ساكنه الجديد بأن لبنان أكبر من رؤسائه وأكثر أهمية واحتضاناً، فقد مُنح غيراغوسيان الجنسية اللبنانية في عهد الرئس فؤاد شهاب، وقبل ذلك كان الفتى الفقير، الموهوب، ابن العائلة الأرمينية اللاجئة إلى فلسطين، قد ولد في القدس، ودرس فيها وفي بيت لحم ويافا، بخلفية كنسية حيث درس في مدارس للراهبات والخوارنة، لأب فقير كان يعمل عازفاً للكمان، قبل أن تفر الأسرة إلى لبنان المجاور بعد نكبة فلسطين الكبرى عام 1948.
نحن هنا إزاء هوية كوزموبوليتكية للقدس، وفلسطين، قبل النكبة، لبلاد كانت سُرّة الأرض كلها مع الرب، حيث فلسطين حاضنة ليس للأديان فقط، بل لعرقيات وثقافات ومغامرات فردية، فريدة حقاً، وفدت إليها إما للتجارة، وبعضها ديني، وإما لمجرد العيش في بلاد مشى في طرقاتها سيدنا المسيح، وعرج منها سيدنا محمد إلى السماء.
ويزداد الأمر تعقيداً في حالة غيراغوسيان ابن الهجرتين الكبيرتين بالغتي الإيلام، الأرمينية والفلسطينية، ابن المنافي وتداخل الثقافات والمرجعيات، ومن ثم الحيرة والتيه والشعور الحاد بالوحدة والتعاطف مع كل آخر قد يكون ضحية، قد يكون شقيقاً للبكاء في هذا الليل الذي لا ينتهي.
فنان هذا شأنه، اكتسح الساحة الثقافية اللبنانية بأسرها منذ الستينيات حتى رحيله، كانت الأم الفقيرة، متعددة الوجوه والتجليات، تحضر في مراحله الفنية وانتقالاته الكبرى، في مدينة ترك غيراغوسيان قبلة على جبينها، وأطلّ أخيراً ليذكّرنا أنه كان هنا في لوحة في قصر رئاستها، حتى لو لم تكن له فإنها تحمل بصمته وأسلوبه الفريد على الأقل.

قراءة المقال بالكامل