"بياض على مد البصر" لمحمد عبد الرازق علي: حكاية مصريّة تنتصر للإنسان

منذ ٣ أيام ٢٢

ليست قراءة رواية "بياضٌ على مدّ البصر" للكاتب والطبيب المصريّ الشاب محمّد عبد الرازق علي (1996) هيّنة، وهنا لا نقصد على صعيد اللغة أو الفكرة المعقّدة أو حجم الرواية، فالعمل الصادر حديثاً عن "دار العين للنشر"، والواقع في مئة وثمانين صفحة، يمتاز بلغةٍ مباشِرة خالية من التعقيد والتكلّف من جهة، ومن أُخرى جاء مكثّفاً من حيث المضمون الفكري وما أراد الكاتب أن يقوله.  

بعد قراءة الفصل الأوّل من الرواية يشعر القارئ أنّه قبالة قصة جريمة قتل، وهذا قد يكون صحيحاً إلى حدّ ما، لكنّ الرواية أوسع وأشمل من مجرّد مقتل ياسمين الذي أفصح عنه الكاتب مبكّراً، وهنا تأتي تقنية "الميتا-قصّ" في السرد، أي أنّ النص يُخبر شيئاً عمّا وراء السرد – ما وراء القصّ، فماذا أراد الكاتب أن يقول لنا؟

هذه ليست قصّة ياسمين التي راحت ضحيّة التخلّف والذكوريّة فحسب، بل هي قِصّة تحدث كلّ يوم في بيوت كُثر. إنها حكاية نساء ومراهقات، وحتّى طفلات، قُتلن بدمٍ بارد بحجّة "الشرف" و"الدفاع عن العِرض" في مجتمعٍ بطريركي ضاعت فيه مفاهيم العفّة بين ضوضاء العادات والتقاليد والجهل. هل هي صرخة لمن لا صوت لهم؟ هل هي دعوة لتجريم القاتل تحت قناع جريمة "الشرف"؟ هل هي رسالة توعويّة للآباء وللأمّهات لفهم أبنائهم، للحوار معهم، لاستيعاب مخاوفهم وضعفهم؟ 

قسّم الكاتب الرواية لفصول قصيرة، مُعنوِناً كلّ فصل باسم شخصيّة من شخوص الحكاية، هي: حليمة (جدّة ياسمين)، ورضا (شقيقها)، وهالة (الأُمّ)، ومسعد (الأب)، والدكتور عبد المنعم، وبالطبع ياسمين الشخصيّة المأزومة والأساس.

معالجة قضايا اجتماعية تحت ستار جريمة قتل ياسمين

تعتمد الرواية اعتماداً كلّياً على "الفلاش باك" وتشظّي الزمن، وإن كانت أحداث الرواية تقع في يومين تقريباً، إلّا أنّنا نعود لسنوات ماضية لندرك ونبرّر سلوكيّاتهم في العمل. وفي مقابل هذه الجمالية، يُهيمن الراوي العليم على حساب أصوات أبطال الرواية، مضمناً بعض الحوارات عن لسان الشخوص، لكنّ تلك الحوارات لا تُشبع نهم القارئ لسماع منولوغات كلّ شخصيّة بمعزل عن الراوي العليم.

عنصر المكان كان حاضراً بقوّة في العمل، سواء المكان الخارجي الذي تمثّل بالقرية، الحاضن الأساس للحدث، أو الداخلي الذي تجسّد بأماكن عدّة كفضاء الإنترنت (السايبر)، ومنزل ياسمين، ومنزل الجدّة والمدرسة. المكان الداخلي كان أكثر سطوةً على الشخوص من المكان الخارجي، حتّى وإن اتّفقنا أنّ جميع الأماكن الداخليّة هي جزء من المكان الخارجي إذ إنّها جمعاء في القرية.

تظهر أهمّيّة "السايبر" من خلال تأثيره في التكوين الجنسي للمراهق رضا، شقيق ياسمين. فهو الذي فتح عينيه على عالم الأفلام الإباحيّة وشكّل رغباته غير السويّة تجاه الجنس الآخر، ولم يكن تأثير فضاء الإنترنت عليه أقلّ تأثيراً من المدرسة، حيث خطّ تنمّر الطلبة عليه وعلى شكله أثلاماً صدّعت كينونته بوصفه رجلاً. ناهيك بالطبع عن منزل ياسمين، مسرح الحدث الأساس الذي نترك للقارئ متعة اكتشافه بنفسه.

تترك الرواية قارئها مشدوهاً أمام الكثير من الأفكار والمواقف: مفهوم "الفضيحة"، والخوف الدائم من الطلاق كأنّه وصمة عار في حياة الزوجة تحديداً، والشكّ غير المبرّر الذي قد لا يقود إلى الطلاق فحسب، بل إلى الجريمة في كثير من الأحيان، والختان وكيف كان هَمّ الجدّة الوحيد وهي تغسل جثّة ياسمين أنّها غير مختونة أو هل هي "بنت بنوت"؛ كأنّ سلطة "الشرف" أشدّ تأثيراً من سلطة الموت. 

أما في ما يخصّ الشخوص، فجميعها مرسومة بحرفيّة، حتّى الثانويّة منها. لكن الشخصيّة اللافتة، رغم دورها المحدود في الرواية، هي شخصيّة الضابط حسام، فهو رمز للضعف البشري الذي خلق إنساناً متسلطاً.

قراءة المقال بالكامل