بين "غيوم سيلس ماريا" وظلّ غزّة

منذ ٢ ساعات ٢٧

في مهرجان كان 2025، وقفت الممثلة الفرنسية جولييت بينوش صوتاً يعترض على هندسة الصمت. نطقت باسم فاطمة حسّونة، المصوّرة الصحافية الفلسطينية التي قُتلت في غزّة بصاروخ إسرائيلي، قبل وقت قصير من احتمال حضورها المهرجان، بصفتها بطلةَ فيلم وثائقي؛ "ضع روحك على يدك وامش"، يحكي تجربتها تحت الحصار. لم يكن استدعاء الاسم فعلاً رمزياً يُضاف إلى سجلّ أخلاقي. كان انحرافاً محسوباً داخل ماكينة ناعمة الصقل، لا تتوقّف عن قول الشيء ونقيضه، طالما ظلّ قابلاً للعرض. بينوش لم تُدلِ بتصريح سياسي، زعزعت إيقاعاً مُبرمجاً على التغاضي.
فاطمة، المولودة في 1999، لم تكن تنقل الحرب فقط. كانت تعيشها وتصوّرها كمن يتلمّس معنى البقاء في التفاصيل. الصورة عندها لم تكن وسيلةً، صيغةَ حياة. قُتلت مع عائلتها بعد ساعاتٍ من ترشيح فيلمها لمسابقة "أسيد - كان" الموازية لمهرجان كان الرسمي، وفي نفس المدينة البحرية. لا مفارقة هنا، تزامن وقائعي يعيد ترتيب السؤال: من يُسمح له بأن يكون حاضراً؟ ومن يُعاد تدويره في الاستعارة؟
ما فعلته بينوش لا يندرج تحت البطولة الكلاسيكية. لم تعارض. لم تصرخ. استثمرت لحظة الضوء لا لتُدلي برأي، أدخلت الكسر إلى العبارة. أشارت إلى فاطمة لا بوصفها قضيةً، احتمال مفقود للحضور. وهنا تكمن دقّة الفعل: إعادة توزيع المعنى من داخل البنية، لا من خارجها. وهذا لا يعني أن النظام تغيّر، أو أن "كان" خرج من صيغته. على العكس، ما زال المهرجان يدار بآليات تُنتِج العالم بوصفه سرداً قابلاً للاستهلاك. وما زالت فلسطين، حين تُذكر، تمرّ عبر مصفاة رمزية تُجرّدها من لحمها الحي. رغم ذلك، تسرّب الاسم. لا تفصيلاً إنسانياً، بل إشارة تشقّ الصمت، كما لو أن "غيوم سيلس ماريا" زحفت إلى قاعة العرض، لا ليصبح الاسم صوتاً فقط، بل ضوءاً ينكسر على فراغ لا يريد أحد أن يراه. وربّما، في جانب من جوانبه، لا يخلو المهرجان من رمزية رأسمالية تلمّع النظام العالمي وتحوّل المعاناة مادّةً بصريةً مصقولةً، ولو من غير قصد مباشر. في 1968، أوقف المخرج جان لوك غودار مهرجان كان احتجاجاً على تغاضيه عن انتفاضة الطلبة في باريس. لم يكن يعارض السينما، تمثيلها المفصول عن التحوّلات الحيّة. قال آنذاك: "أنتم تتحدّثون عن حركة الكاميرا، ونحن نتحدّث عن الدم في الشوارع". رأى في المهرجان واجهةً طبقيةً وثقافيةً مغلقةً، فاختار كسرها من الجذر.
تنتمي بينوش إلى تقليد آخر: مقاومة ناعمة، متقشّفة، لا تخاطب النظام بصفته عدوّاً، باعتباره معماراً هشّاً يمكن خلخلته من الداخل. لم تحتج إلى خطاب. اسم فاطمة كافٍ. اسم في غير موضعه المألوف، يتحوّل من تعريف إلى خلخلة. الفعل هنا ليس تعويضاً رمزياً، تشويش على هندسة المعاني. الاسم لا يُستعاد ليُبكى أو يُزيَّن به الكلام، يُعري الفجوة بين ما يُعرض وما يُقمع. في لحظة محدّدة، داخل قاعة مُكيّفة بدقّة، ارتد الصوت على واجهة الحدث وأعاد تركيب المشهد.
بينوش لم تُطالب. لم تتبنَّ خطاب الضحية. لم تضع نفسها في موقع تمثيلي نيابةً عن أحد. ما فعلته أقرب إلى الانسحاب الجزئي من نصٍّ محسوب، لصالح جملة غير منتظرة. وهذا، في سياق تُدار فيه التراجيديات موادَّ جانبيةً، فعلٌ يُربك الآلة أكثر من أي تصريح نضالي جاهز. ليست الأولى. اختارت أن تنطق باسم فاطمة في لحظة مثقلة بالإجهاد الرمزي، حيث أصبح الموقف نفسه جزءاً من إنتاج المعنى النظيف. فعلت ذلك لا لتصنع أثراً، تكشف شرخاً. وهذه ليست بطولة، وعي بموقع الصوت، ومسؤوليته حين يكون ممكناً. ما من ادّعاء هنا بتغيير شيء. في بنية بُنيت على حذف الفلسطيني أو تحويله استعارةً قابلةً للترويج، يصبح نُطق الاسم (خارج توقّعاته التداولية) تشويشاً. وهو تشويش كافٍ.

قراءة المقال بالكامل