لا تزال تداعيات اعتقال رئيس بلدية إسطنبول الكبرى، أكرم إمام أوغلو إلى جانب 105 آخرين، واتهامه بتأسيس إدارة منظمة إرهابية، تهيمن على المشهد التركي، السياسي والاقتصادي، بعد تأكيد النيابة العامة في إسطنبول أن إمام أوغلو ومجموعة من المتهمين تورطوا في إجبار رجال أعمال على دفع أموال، وتحقيق مكاسب غير مشروعة، وتبييض أموال عبر وسطاء، واستخدام أشخاص مدنيين واجهاتٍ ماليةً سرية.
وأوقفت الشرطة التركية إمام أوغلو بتهم الفساد والإرهاب، بناء على القضية المعروفة باسم "الاتفاق الحضري"، الذي جرى بين حزبي الشعب الجمهوري و"المساواة وديمقراطية الشعوب" خلال الانتخابات المحلية لعام 2024، ومشاهد عد الأموال في مقر الحزب، التي تتعلق بالمناقصات التي أُجريت داخل شركة."Medya A.Ş". وبحسب بيان صادر عن مكتب المدعي العام في إسطنبول، فقد تم اعتقال أكرم إمام أوغلو في إطار تحقيقين منفصلين أجرتهما مكاتب التحقيقات في "جرائم الإرهاب" و"الجرائم المنظمة"، قبل أن توجه إلى المعتقلين اتهامات بـ"التنظيم الإجرامي، والابتزاز، والرشوة، والاحتيال، والتلاعب بالعطاءات".
وبدأت قضية إمام أوغلو تتوسع، بعد الاعترافات بتقديم الرشى والابتزاز، واعتقال مستشاره الإعلامي مراد أونغون، ومستشاره السياسي نجاتي أوزكان، ورئيس بلدية منطقة شيشلي رسول إمره شاهان، ورئيس بلدية منطقة بيليك دوزو محمد مراد تشالك، ليتم في وقت لاحق من أمس الأربعاء، القبض على رجل الأعمال علي نوح أوغلو، المقرب إلى إمام أوغلو، أثناء محاولته الفرار وبحوزته 40 مليون ليرة تركية. ليتم الكشف عن نقل نوح أوغلو ثلاث فيلات بقيمة 50 مليون دولار إلى إمام أوغلو مقابل 15 مليون ليرة، عبر شركته "غوللوجه للزراعة والصناعة"، قبل تحويلها لاحقاً إلى شركة إمام أوغلو للإنشاءات.
وأعلنت النيابة العامة في إسطنبول أن مكتب المدعي العام طلب مصادرة الشركة التي يعد إمام أوغلو شريكاً فيها، بناءً على تقارير هيئة التحقيق في الجرائم المالية (MASAK)، وأن محكمة الصلح والجزاء وافقت على هذا الطلب. وشهدت ولايات تركية عدة، مساء وليل أمس الأربعاء، مظاهرات حاشدة ودعوات إلى الإضراب صدرت عن رئيس بلدية بولو، تانجو أوزجان وتحريضه على الاستقالات الجماعية بعد قوله خلال تصريحات "لقد طفح الكيل، اعتُقل أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول البالغ عدد سكانها 16 مليوناً، ومرشح 86 مليون مواطن لرئاسة الجمهورية، في ساعات الصباح الباكر بذريعة ملف مزعوم يتعلق بتحقيق حول حزب العمال الكردستاني مخاطباً الدولة التركية بالقول: لا تعاملوا الشعب وكأنه غبي، هل تعتقدون أن في إمكانكم إخراج أوجلان من السجن ثم اعتقال إمام أوغلو بدلاً منه".
احتجاجات على اعتقال إمام أوغلو
وعمت المظاهرات الاحتجاجية ولاية إزمير التي بدأها إمام أوغلو السبت الماضي لتكون باكورة حملته الانتخابية، وشهدت العاصمة أنقرة مظاهرة أمام وزارة العدل احتجاجاً على اعتقال رئيس بلدية إسطنبول الكبرى، وأخرى قام بها طلاب من جامعة الشرق الأوسط التقنية بمنطقة كيزيلاي في أنقرة حملوا لافتة كتب عليها "لن نخضع لطغيان حزب العدالة والتنمية"، كما طاولت الاحتجاجات ساحة تقسيم وميدان سراج خانه احتجاجًا على اعتقاله، وللمطالبة باستقالة أردوغان، إلى جانب مظاهرة أخرى في شارع وطن بمنطقة أكسراي بإسطنبول.
كما شهدت بعض الاحتجاجات صدامات مع الشرطة كما حدث في مظاهرة منطقة بيازيد بإسطنبول وأخرى بولاية موغلا التي تطورت إلى مشادات أسفر عنها اعتقال رئيس فرع شباب حزب الشعب الجمهوري في موغلا مع شخصين آخرين. وكانت تركيا قد قيدت الوصول إلى وسائل التواصل الاجتماعي أمس، في مسعى لتخفيف الاحتقان المجتمعي وعدم الدعوات إلى التظاهرات التي عمت ولايات عدة. وقالت منظمة "نت بلوكس" لمراقبة الإنترنت إن السلطات التركية قيدت الوصول إلى العديد من شبكات التواصل الاجتماعي، منها إكس وإنستغرام ويوتيوب وتيك توك وفيسبوك. وحظرت ولاية إسطنبول التظاهرات والتجمعات في المدينة، حتى الـ23 من الشهر الجاري. وأغلقت عدداً من الطرق والميادين الرئيسية في إسطنبول.
ردات فعل الأحزاب المعارضة
وتتالت ردات الأفعال التركية، من مسؤولين ورؤساء أحزاب معارضة، إذ قال رئيس حزب الديمقراطية والتقدم، علي باباجان، إن "ما تعيشه تركيا اليوم لا يختلف عما شهدناه سابقًا من محاولات انقلابية، سواء كانت ظاهرة في السياسة أو نفذتها جهات وصاية مختلفة، حتى وإن لم تكن بيد الجيش"، بينما احتج زعيم حزب الرفاه من جديد، فاتح أربكان على اعتقال إمام أوغلو بقوله "ليس من العدل، ولا من الصواب، أن تفرضوا على الآخرين الظلم الذي تعرضتم له في الماضي، وبصورة أشد، هذا النهج الذي يسحق السياسة والعدالة معاً، هو خلاصة تصفية دولة القانون والانتقال إلى دولة القضاة والمدعين العامين". كما قال رئيس حزب النصر المعتقل، أوميت أوزداغ "أولئك الذين اعتقلوني بشكل غير قانوني ولم يُعدّوا لائحة اتهامي منذ 58 يومًا، قاموا اليوم مرة أخرى بالانتهاك القانوني نفسه باحتجاز رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو".
باكير أتاجان: الشكاوى بفساد رئيس بلدية إسطنبول وحتى تزويره الشهادة الجامعية وردت حتى من أعضاء بحزب الشعب الجمهوري الذي ينتمي إليه إمام أوغلو
واعتبر مراقبون تصريح رئيس بلدية أنقرة، منصور يافاش "تراجعاً" عن تصريحه السابق، إذ قال مساء أمس حول حملة الاعتقالات "لا أحد فوق القانون، كل واحد يمكن أن يحاكم، يذهب إلى المحكمة ويحاكم ويعاقب إن كان قد ارتكب جريمة"، في حين كان يافاش قد صرح بعيد اعتقال إمام أوغلو قائلاً "يجب على كل من يدافع عن سيادة القانون والديمقراطية وإرادة الشعب في هذا البلد أن يعلم أن هذه المحاولات ضد رئيس بلدية منتخب غير مقبولة على الإطلاق". وأضاف أن "إلغاء الشهادة (الجامعية لإمام أوغلو)، ثم إجراءات التوقيف من قبل الشرطة مشهد لا يليق بدولة القانون، ورغم أن سبب الاحتجاز غير معروف، ما دلالة الإسراع اليوم في القبض على رئيس بلدية سبق أن ذهب إلى المحكمة وأدلى بشهادته؟".
وقال إمام أوغلو في أول تعليق بعد اعتقاله على منصة إكس، إن الشعب التركي سيرد الرد المناسب على "الأكاذيب والمؤامرات" بحقه. بدوره، قال رئيس حزب الشعب الجمهوري، أوزغور أوزال، إن "اتخاذ القرارات نيابة عن الشعب، واستعمال القوة لاستبدال إرادة الشعب أو عرقلتها يعد انقلاباً، هناك حالياً قوة قائمة لمنع الشعب من اختيار الرئيس القادم"، مضيفاً على منصة إكس "نحن نواجه محاولة انقلاب ضد رئيسنا القادم، الشعب يحب بلاده، ولكن إذا عارضت الدولة الشعب فلن يسمح بذلك، القوة الحقيقية هي الشعب وهو من سينتصر، لن نستسلم".
وزير العدل: التحقيقات تجري في إطار القانون
وجاء رد وزير العدل التركي، يلماظ تونش بعد تردد كلمة "انقلاب على الرئيس المقبل" بأن التحقيقات التي تجريها النيابة العامة في إسطنبول، "تأتي في إطار القانون، ومن الخطير وغير الصحيح محاولة تحريف التحقيقات التي تقوم بها السلطة القضائية المستقلة باستخدام تعبيرات مثل الانقلاب... يجب احترام القرارات التي يصدرها القضاء المستقل".
ويضيف تونش أنه "تم إصدار قرارات توقيف بحق 106 مشتبهين، بينهم رئيس بلدية إسطنبول الكبرى، وذلك في إطار تحقيقين تجريهما النيابة العامة في إسطنبول.. أحد التحقيقات يقوده مكتب التحقيق في الجرائم الإرهابية، حيث تم إصدار قرارات توقيف بحق 7 أشخاص، بينهم رئيس بلدية إسطنبول، بتهمة المشاركة في تقديم مساعدات لمنظمات إرهابية". أما التحقيق الآخر فيتعلق بمكتب التحقيق في الجرائم المنظمة، حيث تم إصدار قرارات توقيف بحق 100 شخص، بينهم رئيس بلدية إسطنبول، بتهم فساد مالي، ورشوة، وتدليس المناقصات، واحتيال، وغيرها من الجرائم.
جيواد كوك يتوقع أن تطول تداعيات اعتقال إمام أوغلو وتزيد آثارها السياسية وحتى الاقتصادية، على العملة الوطنية والبورصة وحتى رأس المال الخارجي
وأكد أن التحقيقات تجري بدقة شديدة، مع استخدام تقارير من جهاز مكافحة غسل الأموال، وأبحاث من خبراء الضرائب، بالإضافة إلى تصريحات شهود وأدلة أخرى، داعياً إلى عدم نشر معلومات مضللة قائلاً "يجب احترام القانون والنظام القضائي، لا ينبغي لأحد التدخل في سير التحقيقات".
وأعادت التهم بالرشى والفساد الموجهة إلى رئيس بلدية إسطنبول، إمام أوغلو ما سبق وأشارت إليه ميرال أكشنار، رئيسة حزب الخير السابقة، في إبريل الماضي/نيسان العام الماضي، قبل استقالتها من الحزب إذ قالت حينها "لا يمكنني وصف الألم الذي شعرنا به عندما أدركنا أن من ساعدنا في انتخابهم كانوا لصوصًا كبارًا"، كما تقدمت أكشنار بشكوى رسمية إلى هيئة مكافحة الجرائم المالية (MASAK) ضد إبراهيم أوزكان، نائب رئيس مجموعة حزب الخير السابق في بلدية إسطنبول، والذي تم تعيينه مستشارًا لإمام أوغلو في 1 نوفمبر 2024. وطالبت بالتحقيق في الزيادة السريعة في ثروته، وفحص أصوله المالية، وحساباته المصرفية، وأنشطته التجارية.
ويستغرب عضو حزب العدالة والتنمية، باكير أتاجان الحملة التي شنتها أحزاب المعارضة على الرئيس التركي، رجب طيب اردوغان، مشيراً لـ"العربي الجديد"، إلى أن التهم جنائية وليست سياسية، وأكد أن الشكاوى بفساد رئيس بلدية إسطنبول وحتى تزويره الشهادة الجامعية، قد وردت من أعضاء بحزب الشعب الجمهوري الذي ينتمي إليه إمام أوغلو وليس من حزب العدالة والتنمية الحاكم. ويضيف أتاجان أن اعتقال إمام أوغلو بتهم واضحة هو حماية للقانون وليس تعدياً عليه أو استغلاله، وتابع قائلاً "في حال طالت فترة اعتقال رئيس بلدية إسطنبول الكبرى أو ثبتت التهم عليه، فسيتم، على الأرجح تعيين وصي حكومي لإدارة بلدية إسطنبول الكبرى".
كما ردت دائرة الاتصالات في رئاسة الجمهورية التركية على الاتهامات والتحريض ضد أردوغان قائلة، إن الرئاسة ستواصل الدفاع عن الرئيس أردوغان ضد ما وصفته بأنها "حملة تشهير غير عقلانية". بدوره، يقول عضو حزب "الشعب الجمهوري" جيواد كوك لـ"العربي الجديد"، إن المستغرب هو توقيت الحملة والاعتقال بعد أيام على بدء إمام أوغلو حملته للانتخابات الرئاسية، مؤكداً أن حزبه ليس ضد القانون إن كان هناك أي ارتكاب، ولكن لا يستبعد وجود حملة لقتل مستقبل مرشح الحزب الجمهوري ومرشح المعارضة للانتخابات المقبلة، معرباً عن أمنياته بعدم استغلال السلطة والنفوذ ضد إمام أوغلو.
وعلى عكس ما يقال من أنها أزمة وستمر بسرعة، توقع عضو الحزب المعارض كوك أن تطول التداعيات وتزيد آثارها السياسية وحتى الاقتصادية، على العملة الوطنية والبورصة وحتى رأس المال الخارجي الذي يتأثر ويحجم بواقع أحداث كهذه. وكان حزب إمام أوغلو على وشك ترشيحه يوم الأحد المقبل، لمنافسة الرئيس رجب طيب أردوغان على الأرجح.
