لأنه أقرب إلى المستبدين، فإن الرئيس الأميركي دونالد ترامب لا يسمع سوى صوته، ولا ينساق سوى وراء عقلية "البزنس مان"، ولا يقتنع إلا برأي الدائرة الضيقة المحيطة به، ومن صفات المستبد كذلك الانزعاج من الصوت المعارض، والذعر ممن يقولون له: "لا" بصوت عالٍ أو حتى منخفض، وملاحقة من يعارض قراراته أو سياساته حتى لو كانت خطأ وارتداداتها مدمرة وكارثية على الاقتصاد والمجتمع، وهذه أمور تنطبق على ترامب في ولايته الثانية حيث يقود معارك شرسة ضد كل من يخالفه من الدول والمؤسسات والأفراد.
ومن هنا، يمكن تفسير المعركة الشرسة الحالية بين ترامب ورئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) جيروم باول، الذي قال عارض سياسات ترامب الاقتصادية، وقال بصوت عال إن الحرب التجارية التي يقودها ترامب ضد دول العالم ستسبب أضراراً شديدة للاقتصاد الأميركي، وحذر من تداعيات سياسة فرض الرسوم الجمركية على التضخم والنمو، قائلاً إنها ستكون أعلى من المتوقع، وإن البيانات الحالية تشير إلى تباطؤ النمو في الربع الأول من العام الجاري على عكس ما يدعي الرئيس الأميركي.
جدد باول رفضه ضغوط ترامب الشديدة خفض سعر الفائدة إرضاء للوبي رجال الأعمال، قائلاً إن الرسوم الجمركية سترفع حالة عدم الغموض داخل الاقتصاد الأميركي
بل جدد باول رفضه ضغوط ترامب الشديدة عليه لخفض سعر الفائدة إرضاء للوبي رجال الأعمال وخفض تكاليف الاقتراض، قائلاً إن الرسوم الجمركية سترفع حالة عدم الغموض والربكة داخل الاقتصاد الأميركي، وتؤثر سلباً على قدرة البنك المركزي على احتواء التضخم، ودعم النمو الاقتصادي في ظل حالة انعدام اليقين تجاه الآثار المحتملة للسياسات التجارية، كما أثرت سلبا على أسواق المال الأميركية في "وول ستريت".
ولأن ترامب يريد السمع والطاعة من كل من حوله، وإنجاز قرارات في أسرع وقت، فقد غضب بشدة من الخطاب الذي ألقاه باول أمام النادي الاقتصادي في شيكاغو أمس الأربعاء، وشن هجوماً لاذعاً عليه، وخرج علينا اليوم الخميس مهاجماً بشدة باول، قائلاً إنه يترقب تركه لمنصبه "بفارغ الصبر"، وكرر دعوته البنك المركزي إلى خفض أسعار الفائدة. بل وصف التقرير الأخير الذي أصدره باول بأنه "فوضى عارمة تامة ومعتادة"، معتبراً أنه يعكس استمرار التخبط في سياسة الفيدرالي.
لم يكتف ترامب بهذا النقد العلني لأهم مسؤول نقدي في العالم، وأبرز محافظ بنك مركزي وتصريحاته العقلانية، بل هدد بمحاولة إقالته من منصبه، كما يفعل مع أعضاء هيئات سياسية مستقلة أخرى في خطوة معروضة حالياً على المحكمة العليا الأميركية.
معركة ترامب وباول ليست جديدة، بل تكررت في ولايته الأولى، وتنبع من قناعات الرجلين، الرئيس الأميركي رجل أعمال وسمسار عقارات يسعى إلى خفض سعر الفائدة، لأنه يرى أن هذا هو أسرع الطرق لتشجيع الاستثمار وإقامة مشروعات صناعية، وضخ استثمارات جديدة توفر ملايين من فرص العمل وتزيد الإنتاج وتسد احتياجات الأسواق المحلية وتخفض أسعار السلع.
وفي المقابل ينظر باول إلى الأمور بمعايير اقتصادية ومالية ونقدية بحتة، ويحافظ على استقلالية البنك المركزي في إدارة السياسة النقدية، والعمل بشكل احترافي بعيداً عن السياسة وألاعيبها ودهاليزها وقذارتها، وأنه طالما أن هناك موجة تضخم في الطريق، فمن الصعب الاستجابة لضغوط ترامب بشأن الفائدة في ذروة حربها مع الصين.
ترامب سيقدم على إقالة باول قبل انتهاء فترته في مايو 2026، ضارباً عرض الحائط بالتقاليد الأميركية المتعارف عليها من احترام استقلالية البنك المركزي
في رأيي، إن الرئيس الأميركي سيقدم على إقالة باول من منصبه قبل انتهاء فترته في شهر مايو/أيار 2026، ضارباً عرض الحائط بالتقاليد الأميركية المتعارف عليها منذ سنوات طويلة من احترام استقلالية البنك المركزي، وهذه رسالة سلبية أخرى يبعثها ترامب لكل البنوك المركزية في العالم، التي تعتبر مصداقية الفيدرالي في إدارة السياسة النقدية باتت على المحك، وأنه يجب المحافظة على تلك المصداقية باعتبارها مهمة ليس للاقتصاد الأميركي فقط، ولكن للبنوك المركزية والأسواق العالمية التي تتابع قراراته، كما تعد الإقالة مسماراً جديداً في نعش الدولار وتضعف درجة الثقة في النظام المصرفي والنقدي الأميركي.
