ترامب وقناة السويس... ثلاث ذرائع تاريخية

منذ ١٣ ساعات ٢٣

أغلب الظنّ أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب لم يعابث مصر ولم يهازل العالم، حين نُقل عنه قبل أيّام مطالبته السلطات المصرية بإعفاء السفن الأميركية من رسوم العبور في قناة السويس، ففي جعبته ما يفيض انتحالات تاريخية واقتصادية، ليس أقربها كندا وغرينلاند، ولن تكون قناتا بنما والسويس أبعدها، وما بين الأقرب والأبعد يربض المشروع العقاري لقطاع غزّة. وعلى جري العادة، يطلق الرئيس ترامب الطلقة وينتظر ردّات الفعل عليها، ثمّ يعيد الإطلاق والتكرار شارحاً في كلّ مرّة خلفيات ما يريد وأبعاد ما يشاء، وفي حالة قناة السويس، ثمّة ثلاث ذرائع يفترضها ترامب حقوقاً تاريخيةً أميركيةً يتوجّب على المصريين سداد مستحقّاتها.

يعتبر دونالد ترامب أن نصيباً من أسهم قناة السويس، كان من المفترض أن يذهب إلى الولايات المتحدة حين انطلق مشروع القناة عام 1859. فآنذاك، حاول صاحب مشروع القناة فرديناند دي ليسبس، أن يجعلها شركة عامّة دولية موزّعة بين 400 ألف سهم، منها 85 ألفاً لإنكلترا وروسيا والنمسا والولايات المتحدة، وبما أن تلك الأسهم "لم تأخذها هذه الحكومات أضيفت إلى حصة مصر"، كما جاء في كتاب محمد طلعت حرب "قناة السويس" (1910). وعلى ما يقول مصطفى علي البهتيمي، في كتابه "تاريخ زراعة القطن في مصر" (1952)، فإن سنوات الحرب الأهلية الأميركية بين الأعوام 1861 و1864 أدّت إلى إعاقة تصدير القطن الأميركي إلى أوروبا، فمالت دول القارة الشقراء إلى القطن المصري، وبذلك ارتفعت صادرات الأقطان من مصر إلى أوروبا من 596 ألف قنطار عام 1861 إلى مليونين ونصف مليون قنطار عام 1865، الأمر الذي أنتج ثراءً مصرياً أسهم في تكوين مشاريع تنموية عديدة، وفقاً لسامي وهبي غالي في "البورصات وتجارة القطن" (1955). ويذهب باحثون آخرون إلى القول إنّ جزءاً هاماً من عائدات القطن المصرية كانت تُصرف في تمويل قناة السويس، فيما عجلة الحرب بين الشمال والجنوب في الولايات المتحدة كانت تدفع أكثر من 800 ألف أميركي إلى المغادرة نحو العالم الآخر.

يعتبر ترامب أن نصيباً من أسهم قناة السويس، كان من المفترض أن يذهب إلى الولايات المتحدة حين انطلق مشروع القناة عام 1859

المفصل الثاني في مزاعم الرئيس ترامب يكمن في حرب السويس عام 1956، أو ما يُعرف بالعدوان الثلاثي الذي شنّته إسرائيل وفرنسا وبريطانيا على مصر بعد اتخاذ الرئيس المصري جمال عبد الناصر قراراً بتأميم قناة السويس، في 26 يوليو/ تمّوز 1956، وإذ لا يمكن القول إن إدارة الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور كانت معجبة آنذاك بالرئيس عبد الناصر، إلّا أنها لم تحرّك ساكناً حين أدركها الخبر اليقين بأن الإسرائيليين سيهاجمون مصر في 29 أكتوبر/ تشرين الأول 1956، وكذلك لم تغادر واشنطن صمتها حين بلغها نبأ الجاهزية البريطانية الفرنسية في الذهاب إلى المثالثة العدوانية على مصر في اليوم التالي، وعلى ما يقول محمد حسنين هيكل في "حرب الثلاثين سنة... ملفّات السويس" (دار الشروق، القاهرة، 2004)، فإن أيزنهاور "ترك للآخرين الحبل، وعندما بدأوا يلفّونه حول أعناقهم، راح هو يشدّ ليحكم الخناق"، وبعد ذلك راحت الولايات المتحدة بالتشارك مع الاتحاد السوفييتي تطالب الأطراف الغازية بالعدول عن أفعالها، وإخلاء ميادين القتال ووقف الحرب.

ومن العناوين الصحافية العريضة في تلك الفترة، ما جاء في صحيفة الحياة (31/10/1956) أن فرنسا وإنكلترا قرّرتا احتلال القناة صباح اليوم، ولكن أميركا وروسيا استصدرتا قراراً من مجلس الأمن بمنع ذلك. وفي شروحات هيكل فإن الولايات المتحدة تقدّمت بقرار إلى مجلس الأمن "يدعو إلى وقف النار فوراً ويلمّح إلى إدانة إسرائيل بالعدوان"، وحيال الشريكتَين (فرنسا وإنجلترا) ينقل هيكل عن أيزنهاور قوله: "عرفتُ من قراءة التاريخ أن هناك قوىً عظمى تصرّفت بحماقة، ولكنني لا أعرف لهذه الحماقة التي ترتكبها فرنسا وبريطانيا مثيلاً من قبل".

نشرت مجلة الرسالة المصرية في 1933، مقالة رأت أن مصر لم تجنِ من إنشاء قناة السويس سوى "المتاعب الخالدة"

أُعيدَ فتح قناة السويس أمام الملاحة في مارس/ آذار 1957، بعد توقّف قسري دام أشهراً عدّة، ولتدخل القناة مرّة أخرى مرحلة الإغلاق الملاحي بعد حرب يونيو/ حزيران 1967، وإلى تاريخ إعلان الرئيس أنور السادات فتحها مجدّداً في آواخر مارس 1975، بالتزامن مع الجولات المكوكية لوزير الخارجية الأميركية هنري كيسنجر بين مصر وإسرائيل، بهدف إخراجهما من حالة الحرب والعداء، ممّا أفضى أخيراً إلى توقيعهما معاهدة كامب ديفيد عام 1978، وكان سبقها زيارة السادات إلى الكنيست الإسرائيلي بسنة واحدة. وشهدت الوتيرة الزمنية لاستئناف الملاحة في القناة تطوّرات عدّة، ففي الثلاثين من مارس 1975، خرجت صحيفة الأهرام المصرية بهذا العنوان: "الرئيس يعلن في خطاب تاريخي إلى الأمّة فتح قناة السويس في 5 يونيو"، وفي عددها التالي، نقلت "الأهرام" عن دوائر أميركية رأت إعلان السادات "مخاطرة محسوبة، وهو بهذا الموقف قد دفع الكرة في ملعب إسرائيل"، ووصف تحليل لوكالة الصحافة الفرنسية، استند إلى تقدير موقف إسرائيلي ونشرته صحيفة "العرب" القطرية (31/9/1975)، خطوة السادات بأنها متوقّعة منذ اتفاق فصل القوات بين مصر وإسرائيل عام 1974، وقالت صحيفة الرأي العام الكويتية (31/3/975) لقد "رحّبت الولايات المتحدة بخطاب الرئيس أنور السادات، الذي أعلن فيه أنه سيمدّد فترة بقاء القوات الدولية مدّة ثلاثة أشهر أخرى ويفتح قناة السويس للملاحة الدولية"، وكتبت في افتتاحيتها "لكي لا تنزعج أميركا، جاءها أمس على طبق فتح قناة السويس وتمديد فترة القوات الدولية، بما يعني إزاحة عبء ثقيل عن كاهلها، فالرغبة في تحقيق التسوية هي كلّ شيء، والمحبّة لأميركا هي سيدة الأشياء".

وقبل يوم واحد من إعادة فتح القناة (في الخامس من يونيو 1975) أجرى تلفزيون لبنان حواراً مع السادات نشرت صحيفة الأنوار البيروتية (5/6/1975) تفاصيله، وقال فيه الرئيس المصري: "أنا فتحت قناة السويس لأقول لأميركا والشعب الأميركي والكونغرس ومجلس الشيوخ إنني لا أخشى السلام"، وقال السادات وفقاً لصحيفة النهار اللبنانية (5/6/1975) إن "غايتي أن أقول لأميركا إنني قادر على صنع السّلام".

وبناءً على ما تقدّم، يرى ترامب أسهماً أميركية ضائعة في الاكتتاب الأول لقناة السويس قبل 150 عاماً، إضافة إلى أنّ التمويل المصريّ للقناة جاء على حساب الخرائب التي خلّفتها الحرب الأهلية الأميركية، والأهم من ذلك، أن الولايات المتحدة عملت مرّتَين لإعادة فتح قناة السويس بعد إغلاقها جرّاء حربَين. وعلى ذلك، ألا يحقّ لها التعويض، ويكون لها نصيب في القناة؟... وأمّا خاتمة القول فمقالة عن قناة السويس نشرتها مجلة الرسالة المصرية (22/9/1933)، ورد فيها: "لم تجنِ مصر من إنشاء القناة سوى المتاعب الخالدة".

قراءة المقال بالكامل