يتعمّد الشريكان الصهيونيان، دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو، عدم رؤية الفيل في الغرفة، رغم مهابة حجمه ورهبة حضوره. والقول، في جوهر معانيه، يرمي إلى تجاهل الشخص أو الأشخاص المعنيّين، المعضلة الأساسية في قضية ما، والتعامل معها كأنّها غير موجودة، بينما هي عياناً بحجم فيل. والفيل المشار إليه هنا هو الحلّ الجذريّ للقضية الفلسطينية المزمنة، التي يدور حولها الشريكان، الأميركي الحاضن والإسرائيلي المحتلّ، منذ عقودٍ طويلةٍ مليئة دماً ودموعاً، مؤدّيَين معاً رقصتهما الإجرامية بنشوة دموية غير مرتوية من لحم الفلسطيني، ساعيَين بالتكافل والتضامن إلى إنهاء القضية الفلسطينية برمّتها، إمّا بالإبادة، أو بالترحيل، أو بمصادرة البيوت والأراضي، أو بالضمّ العلنيّ الفاجر والوقح، أو بذلك كلّه وغيره معاً.
منذ بداية المشروع الصهيونيّ الإحلالي، غير المسبوق نموذجاً في التاريخ، يعمل الغرب المجرم بخبثٍ على منهجة احتلال فلسطين وإبادة شعبها، ضمن خطّة ممرحلة ممتدّة زمنيّاً، تُستخدم فيها أشكال إخضاع وخداع متنوّعة، من بينها اتفاقات سلام تخديريّة (مثل أوسلو المشؤوم والمخادع) أو تطبيعيّة مع دول الجوار، في انتظار ساعة الإطباق التام على شعوبها ومقدّراتها، أو إشعال الفتن الدينية والمذهبية والإثنية بين المجموعات التي تعايشت تاريخيّاً حتى ظهر الكيان السرطاني المسخ، وأخذ ينتشر. لا كلمةَ تصدُر من هذا الكيان الغاصب إلّا هي نفاق وخداع مكشوفان، من صنف "التمسكُن حتى التمكّن"، فالمشروع في أصله وفصله عنصريّ مقيت، مريض، متعالٍ على باقي الشعوب، ولا صدقيّة بالتالي لأيّ كلام عن "سلام" أو "شراكة" أو "تطبيع"، لأنّ كلّ شيء هو إجراءٌ مرحليٌّ مخادع في الباطن الصهيوني.
هنا تكمن مأساة منطقتنا سيئة الحظّ، في استعصاء أيّ حلّ واستحالة أيّ أمل، طالما أن مشروع السيطرة التامّة جارٍ ومستمرّ، وها هي المشاريع العجيبة المطروحة لغزّة برهان ساطع، ومثلها ما يحدث في سورية، وله وجها زرع الفتن والاحتلال، وكلاهما مؤسف جدّاً، إذ ينبئ بتحقّق مرحلة متقدّمة من مراحل المشروع الصهيوني، الذي لطالما كان شعاراً مطروحاً، وإذ به يُمسي واقعاً في الأرض (ويا للأسف، بل ويا للألم)، كأنّنا حيال "ممرّ داود" الخرافيّ، يمتدّ طولاً إلى نهر الفرات ليتحقّق الوعد والشعار المرسومان بالخطّين الأزرقين. ذلك كلّه والسوريون نيامٌ، منشغلون بالثأر والثأر المضادّ، وبالأحقاد الطائفية والمذهبية والإثنية البغيضة الحمقاء، والعرب خانعون خاضعون تابعون خائنون متفرّجون، والعالم غارق في مصالحه وأنانياته ولامبالاته، ولا أطرافَ تردع، ولا مرجعيات دولية فاعلة تمنع، وﻻ قوانين تنهى وترعى. يؤوب العالم إلى أحواله الأكثر توحّشاً، إنّما مع أسلحة أخطر، أشدّ فتكاً، و"ذكاء اصطناعيّ" آية في الإجرام الغبي.
الكلمة الفصل في موضوع غزّة ويومها التالي، ليست لترامب ولا لنتنياهو
بالعودة إلى الثنائي القبيح ترامب - نتنياهو، فإنّهما ورغم عملهما لهدف واحد، هو تمكين "إسرائيل" القويّة و"الكبرى" في مشرقنا العربيّ البائس والحزين، إلا أنهما قد يفترقان في الأطماع والأحلام، فاليانكي ترامب، يحلم بـ"ريفييرا" تجلب له استثماراتٍ وأموالاً بفضل موقعها المميّز في المتوسّط، وبالتالي، تكون هُويَّة المشروع أميركية لا إسرائيلية، ويفترق الشريكان "على زعل" (كأنّنا في اقتراع على جلد الدب قبل صيده). أمّا نتنياهو، فحساباته مختلفة؛ إنهاء كابوس غزّة الذي أرّق أسلافه منذ بن غوريون، وإنجاز الترانسفير الأكبر منذ "النكبة"، وإعادة احتلال القطاع كاملاً بعد إفراغه من أهله، وبناء مستوطنات لليهود الصهاينة، وضمّه إلى كيان الاحتلال، واستثمار ثرواته ومنها الغازيّة بارتياح تامّ. التصوّران، الأميركيّ والإسرائيليّ متناقضان، لكنّ الطرفَين يتبادلان ابتسامات الرضى الخبيثة، ولسان حالهما يقول: سوف نرى لاحقاً.
في أيّ حال، الكلمة الفصل في موضوع غزّة، ويومها التالي، ليست لترامب، وليست بالتأكيد لنتنياهو، بل حتماً وحكماً وحصرياً لشعب غزّة العظيم، الأبيّ، الأسطوريّ بوصف الجميع، ويستطيع ترامب أن يحتفظ بحلمه مثل حلم إبليس بالجنة، وبإمكان نتنياهو النظر إلى نفسه بافتتان، مثل نرسيس فوق صفحة الماء قبل سقوطه وغرقه، ملكاً على مملكة الخرافة والباطل، وقد نسي الآية في كتابه المقدّس "باطل الأباطيل، الكلّ باطل"، وتتمّتها "فإذا الكلّ باطل، ولا منفعة تحت الشمس ".
إنّما هو مركب خشن يركبه الغرب وصهاينته مع الشعب الفلسطيني. لم يتعلّموا بعد. على مهلهم... سيتعلّمون.
