واصل الرئيس الأميركي دونالد ترامب تجاهله تحذيرات الشركات والاقتصاديين من فرض الرسوم الجمركية على الواردات إلى الولايات المتحدة، والتي تسببت في ضربات قاسية لوول ستريت على مدار الأسابيع الأخيرة، الأمر الذي تسبب في محو مليارات الدولارات من القيمة السوقية للأسهم الأميركية، ومن ثم من حسابات التقاعد الخاصة بالأميركيين، بينما استمرت المؤشرات السلبية عن الاقتصاد الأميركي في الظهور.
وذكَّرت شبكة سي أن أن الإخبارية متابعيها برئيسة الوزراء البريطانية ليز تراس، التي قالت إنها كانت هي أيضاً صاحبة توجهات اقتصادية غير تقليدية، ما تسبب في إشعال أسواق المال في المملكة المتحدة، وتسبب في إنهاء حياتها السياسية بعد 45 يوماً فقط قضتها في مقر الحكومة في داوننغ ستريت بلندن، متمنية أن تكون قصتها عبرة للرئيس الأميركي السابع والأربعين.
وحاولت رئيسة الوزراء البريطانية قبل أكثر من عامين تمرير تخفيضات ضريبية ضخمة غير ممولة، مما أدى إلى انهيار السندات الحكومية البريطانية قبل أن تُجبر على التراجع في موقف مهين. وكسبت تراس بسبب ذلك لقب أقصر رئيسة وزراء بقاءً في المنصب في تاريخ بريطانيا، ووصفت أيامها في الحكم بأنها كانت أقل من المدة التي يستغرقها الخسّ ليذبل ويتحلل.
ولكن وظيفة ترامب تبدو آمنة نظرًا لاختلاف النظام السياسي بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. كما أن الرئيس الأميركي وصنّاع قراراته فاجأوا المستثمرين بمدى الألم الاقتصادي الذي كانوا على استعداد لتحمله من أجل تنفيذ أجندتهم الاقتصادية الراديكالية، إلا أن محللي شبكة سي أن أن قالوا في أكثر من مناسبة إن هذا التحمل ليس بلا حدود.
ويرى روس ميفيلد، وهو استراتيجي استثمار في شركة بارد للخدمات المالية، أن "هناك ثروات خاصة ضخمة مرتبطة بسوق الأسهم لدرجة أنه لا بد أن تكون هناك نقطة تدفع ترامب في النهاية لتغيير مساره بشأن الرسوم الجمركية". وأضاف في مذكرة: "الأسواق المالية هي الملك في نهاية المطاف". ويعتقد ترامب أن الرسوم الجمركية هي الحل السحري لاقتصاد أميركا، كونها وسيلة لتعزيز التصنيع المحلي، وتوفير الأموال لسد العجز في الميزانية الأميركية مع الخفض المتوقع لضرائب الدخل، بالإضافة إلى ما تمثله من أداة ضغط سياسي، تزيد من فرص انتزاع تنازلات من الدول الأخرى في قضايا التجارة وغيرها.
لكن الشركات والاقتصاديين يجادلون بأن الرسوم الجمركية تؤدي في الواقع إلى رفع الأسعار على المنتجين الأميركيين الذين يستخدمون مدخلات مستوردة، وعلى المستهلكين، بينما تؤدي الرسوم الانتقامية التي تفرضها الدول الأخرى إلى خفض الطلب على المنتجات الأميركية في الخارج. واعترف ترامب بأن خطته الجمركية ستسبب "بعض الاضطراب"، ولم يستبعد احتمال حدوث ركود اقتصادي، بينما قال وزير الخزانة سكوت بيسنت الأسبوع الماضي إن البيت الأبيض لا يكترث بـ"التقلبات البسيطة" في أسعار الأسهم الأميركية.
والأسبوع الماضي، قالت مؤسسة غولدمان ساكس إن هناك الآن احتمالاً بنسبة 20% لحدوث ركود اقتصادي في الولايات المتحدة خلال الأشهر الـ 12 المقبلة، ارتفاعًا من 15% سابقًا. كما رفع خبراء الاقتصاد في بنك جيه بي مورغان احتمالية الركود هذا العام إلى 40% من 30%، مشيرين إلى أن "السياسات الحكومية الأقل ودية للأعمال" هي أحد الأسباب، الأمر الذي ساهم في تزايد نبرة التشاؤم لدى المستثمرين.
سياسات ترامب تسبب تسارع المؤشرات السلبية
وأظهر تقرير صدر عن وزارة العمل اليوم الاثنين في واشنطن أن المستهلكين أنفقوا بوتيرة أبطأ من المتوقع في فبراير/شباط، بالتزامن مع تزايد المخاوف بشأن احتمالات حدوث تباطؤ اقتصادي وارتفاع التضخم في الاقتصاد الأكبر في العالم. وحتى إغلاق السوق يوم الجمعة، انخفض مؤشر ستاندرد آند بورز 500 بنسبة 8.2% مقارنة بأعلى مستوى سجله في 19 فبراير، بينما انخفض مؤشر ناسداك المركب، الذي يهيمن عليه قطاع التكنولوجيا، بنسبة 12% منذ أن بلغ ذروته في ديسمبر/كانون الأول.
ويوم الأحد، أدلى نائب رئيسة البنك المركزي الأوروبي، لويس دي غويندوس، بتصريحات لصحيفة "صنداي تايمز"، أكد فيها أن "هجمات الرئيس الأميركي دونالد ترامب السياسية تُترجم بشكوك أكبر على صلة بالمناخ الاقتصادي العالمي مقارنة بما كانت عليه الأمور خلال جائحة كوفيد 19".
وتوقعت شركة تارغت، التي تعد واحدة من أكبر متاجر التجزئة، مؤخرًا أن يحد الأميركيين من إنفاقهم بسبب عدم وضوح الموقف بشأن الرسوم الجمركية، كما ذكرت شركة كولز، وهي منافسة لتارغت، أن حالة عدم اليقين الاقتصادي تؤثر سلبًا على المستهلكين. أما شركة دلتا إيرلاينز، فقد ذهبت إلى أبعد من ذلك، حيث خفضت توقعاتها للأرباح يوم الاثنين الماضي بسبب تراجع ثقة المستهلكين والشركات "بالتزامن مع تزايد حالة عدم اليقين الكلية".
وقال كيفن جوردون، كبير استراتيجيي الاستثمار في شركة الخدمات المالية شواب في مذكرة: "عدم اليقين هو عامل مُحبط لمجتمع الأعمال، وبدوره هو مُحبط للمستثمرين". وأضاف: "نسمع بشكل مباشر من الشركات أنها ببساطة غير قادرة على وضع خطط إنفاق واضحة". وحتى الآن، يبدو أن ترامب غير متأثر برد فعل السوق، إذ قال للصحافيين يوم الثلاثاء الماضي: "الأسواق ستصعد وستهوي، ولكن كما تعلمون، علينا إعادة بناء بلدنا".
وبالمثل، قال وزير الخزانة سكوت بيسينت يوم الأحد إنه "غير قلق على الإطلاق" من تراجع سوق الأسهم. وأضاف لشبكة أن بي سي الإخبارية: "لقد كنت في مجال الاستثمار لمدة 35 عامًا، ويمكنني أن أخبرك أن التصحيحات (في السوق) صحية، وهي أمر طبيعي. إنما الصعود المستمر فهو الأمر غير الصحي".
وقال بول دونوفان، كبير الاقتصاديين في إدارة الثروات العالمية في بنك الاستثمار العملاق يو بي إس، في مذكرة إن ترامب لم يُظهر نفس اللامبالاة خلال ولايته الأولى، وهذا التغيير في الموقف هو بحد ذاته أمر مقلق للمستثمرين. وأضاف: "كانت الأسواق تتوقع أن يؤدي رد الفعل السلبي من المستثمرين إلى إعادة تقييم لموقفه السياسي".
ترامب وتراس... تشابه في المصير؟
وفي سبتمبر/أيلول 2022، بدأت ليز تراس فترة توليها رئاسة الوزراء في بريطانيا بخطة اقتصادية جريئة مماثلة، قامت على خفض الضرائب بعشرات المليارات، وتمويل ذلك عبر الاقتراض بدلًا من تقليص الإنفاق. ومع الكشف عن هذه الخطة، المعروفة بـ "الميزانية المصغرة"، هرع مستثمرو السندات إلى الخروج من السوق، قلقين بشأن استدامة المالية العامة البريطانية. وأدى هذا البيع المكثف في السندات البريطانية إلى رفع تكلفة الرهون العقارية. ودُفعت بعض صناديق التقاعد، التي استثمرت في هذه السندات، إلى حافة الإفلاس، مما دفع بنك إنكلترا إلى التدخل. وفي النهاية، أجبرت هذه الفوضى في الأسواق تراس على إلغاء مشروعها الكارثي.
ومثلما حدث مع تراس، قد يُجبر ترامب في النهاية على التراجع، كما فعل بالفعل مع بعض إجراءاته. فعلى سبيل المثال، تراجع أو أجّل بعض الرسوم الجمركية الأكثر تطرفًا التي كان يهدد بفرضها، بما في ذلك فرض رسوم بنسبة 60% على جميع الواردات من الصين (وهي أقل بكثير حاليًا)، ورسوم بنسبة 25% على كندا والمكسيك. والشهر الماضي، أعاد ترامب مؤقتًا العمل بما يُعرف بقاعدة "دي مينيميس"، التي تسمح بدخول الطرود التي تقل قيمتها عن 800 دولار إلى الولايات المتحدة دون رسوم جمركية.
الأسواق "الحَكَم النهائي"
ويمثل تجاهل رد فعل الأسواق تجاه القرارات السياسية رهاناً محفوفاً بالمخاطر، ليس أقلها أن هذا التفاعل له تأثير على الاقتصاد الأوسع. ويعتقد جاك أبلين، الشريك المؤسس لشركة كريست كابيتال لإدارة الثروات في شيكاغو، أن سوق الأسهم سيكون "الحَكَم النهائي" على سياسات ترامب الاقتصادية لأنه يؤثر على الإنفاق الاستهلاكي، الذي يُعد عنصرًا بالغ الأهمية.
وقال أبلين إن الأميركيين الذين يتابعون انخفاض قيمة محافظهم الاستثمارية وحسابات التقاعد الخاصة بهم سيشعرون بأنهم أقل ثراءً، وسيقلصون إنفاقهم على الكماليات مثل الإجازات وتناول الطعام في المطاعم. ولن يستطيع ترامب تجاهل هذا التأثير السلبي المتسلسل على الاقتصاد ككل إلى الأبد.
واتفق ميفيلد من شركة بارد مع هذا الرأي، مشيرًا إلى أن ترامب يمتلك العديد من الأدوات لتهدئة المستثمرين. وقال: "بإمكان الرئيس ترامب تخفيف حدة خطابه بشأن التجارة والرسوم الجمركية والتركيز على أمور ستسعد السوق حقًا، مثل التخفيضات الضريبية وتخفيف القوانين التنظيمية". وأضاف أن قدرة ترامب على تحمل "الألم"، أي مستوى الاضطراب في السوق الذي هو مستعد لتحمله قبل تغيير المسار، كانت أكبر مما توقعه المستثمرون، لكنها ليست غير محدودة. وختم قائلاً: "أنا مؤمن بأن السوق هو الحَكَم النهائي لمثل هذه الأمور".
