يبدو الرئيس الأميركي عازماً على توسيع دائرة تعسفه بحق حلفائه الأوروبيين، فبعد فرضه زيادات في الإنفاق العسكري، وتقليص الدعم عن أوكرانيا، والتوجه لفرض تعرفات جمركية إضافية، يريد الآن الانقضاض أيضًا على أحد أهم الواردات الحيوية لأوروبا، والمتمثلة في مشتقات الطاقة من النفط والغاز. ويسعى ترامب إلى الاستثمار في خط نورد ستريم 2 التالف، الذي تعرض لعمليات تخريب انتقامية عقب الغزو الروسي لأوكرانيا، وهو الخط الذي عارضته الولايات المتحدة منذ البداية، وكان موضع خلاف جيواستراتيجي لسنوات بين واشنطن من جهة، وبرلين ودول أوروبا الشرقية والدول الاسكندنافية ودول البلطيق من جهة أخرى.
وتفيد المعلومات بأن ترامب، ومن منطلق رجل الأعمال، يسعى إلى إحداث تغيير جدير بالاهتمام على مستوى العلاقات عبر الأطلسي، وذلك باعتزامه الاستثمار في نورد ستريم 2، الذي طالما اعتبرته واشنطن تهديدًا لأمن الطاقة الأوروبي، وتعزيزًا لنفوذ روسيا في أوروبا، وذلك بواسطة مجموعة من رجال الأعمال الأميركيين، غير عابئ سوى بمصالح بلاده، وتحت شعار "أميركا أولًا". وهذه المرة، يتم تنفيذ المخطط عبر التعاون مع زعيم الكرملين، في محاولة لتحسين العلاقات بين البلدين، وتعظيم الفوائد الاقتصادية لكلا الجانبين.
وبشأن المفاوضات، كشفت تقارير اقتصادية حديثة، من بينها تقرير نشرته برلينر تسايتونغ، أن السفير الأميركي السابق لدى ألمانيا، ريتشارد غرينيل، والذي يشغل منصب المبعوث الخاص للرئيس ترامب، يلعب دورًا رئيسيًا في ترتيبات هذه الصفقة، حيث أجرى عدة محادثات سرية في سويسرا للتفاوض على عقد الاتفاق، الذي من شأنه أن يخدم المصالح الروسية والأميركية على حد سواء. أما عن الجانب الروسي، فإن المدير الإداري السابق للمشروع، ماتياس فارنيغ، يلعب دورًا محوريًا في تنسيق المحادثات، وهو المقرب من غيرهارد شرودر، المستشار الألماني الأسبق، وصديق فلاديمير بوتين، والذي يعد أيضًا عضوًا استشاريًا في نورد ستريم 2.
ووفقًا للمخطط المبدئي، ستتم الاستعانة بأهم المستثمرين الأميركيين لتنفيذ المشروع بعد إبرام العقد، وعلى رأس هؤلاء رجل الأعمال الأميركي ستيفن لينش، الذي يتمتع بعلاقات جيدة مع موسكو وواشنطن، وكان قد أعلن مرارًا عن اهتمامه العلني بسيطرة الولايات المتحدة على مشروع نورد ستريم 2، حتى أنه تقدم العام الماضي بعرض لشراء الشركة المشغلة للخط. ومن السيناريوهات المحتملة، أن تعمل الولايات المتحدة وسيطاً، بحيث تقوم بتصدير الغاز الروسي إلى ألمانيا عبر أنابيب نورد ستريم 2، مما يمنحها السيطرة على تجارة الغاز في أوروبا، إضافة إلى تحقيق أرباح ضخمة. وهناك أيضًا طرح آخر يقضي بشراء الخط من جانب مستثمرين أميركيين بشكل كامل.
وفي ظل هذه التطورات، أظهرت التقارير الصادرة أمس أن الحكومة الألمانية تدرس اتخاذ إجراءات ضد إمكانية إعادة تشغيل خط نورد ستريم 2، بعد ورود أنباء عن مفاوضات سرية بين الولايات المتحدة وروسيا لشراء الخط وتشغيله. كما أشارت التحليلات إلى أن اهتمام القطاع الخاص ومشاركة مستثمرين كبار في المشروع، في ظل غياب المشاركة الرسمية للحكومة الأميركية، لا يمكن تفسيرهما إلا بموافقة ترامب، الذي بادر إلى اتخاذ الخطوة، بينما تدير إدارته المفاوضات من خلف الكواليس لإتمام الصفقة والاستفادة من مكاسبها المالية الضخمة. وتتيح هذه الاستراتيجية لترامب وإدارته تحقيق أهدافهم دون أن يتم اتهامهم بالتعاون المباشر مع الكرملين، أو بتجاوز مصالح دول أوروبا الشرقية.
وفي حال نجاح ترامب في تشغيل نورد ستريم 2، فسيشكل ذلك نقطة تحول دراماتيكية في العلاقات عبر الأطلسي، مما سيزيد من التوترات مع الحلفاء الأوروبيين، خاصة ألمانيا، التي تقاوم هذا المخطط بشدة، في ظل اعتقادها بأن واشنطن، ومن ورائها موسكو، تسعيان لتحقيق أهداف جيوسياسية واقتصادية على حساب المصالح الأوروبية. وتأتي هذه التحركات في إطار مساعي إدارة ترامب لإحداث تحول جيوسياسي يتناقض مع السياسات التي اتبعها خلال ولايته الأولى. فبدلًا من الاستمرار في محاربة نورد ستريم 2، أصبح ينظر إليه كفرصة استثمارية مربحة للأميركيين، مما يسمح للولايات المتحدة بالسيطرة على خط الأنابيب وتشغيله، وبالتالي تحقيق مكاسب مالية هائلة.
وفي هذا السياق، اعتبر الباحث الاقتصادي أوفيه مويزه، في تصريحات لـ "العربي الجديد"، أن ترامب، بسياساته الاقتصادية واندفاعاته التعسفية تجاه منافسيه، يسعى إلى زعزعة استقرار العالم. وأوضح أن تحركاته الحالية تعكس رغبته في الالتفاف على حلفائه الأوروبيين، من خلال تضييق الخناق عليهم، وإعادة تشغيل خط نورد ستريم 2 التالف بالتعاون مع الروس، مما يمنح أميركا القدرة على التحكم بأسعار الطاقة، وخنق الاستراتيجيات الاقتصادية الأوروبية. ويأتي ذلك بالتزامن مع عزمه فرض تعرفات جمركية إضافية، وإجبار حلفائه في الناتو على زيادة الإنفاق الدفاعي، وهو ما يشير إلى أن العلاقات عبر الأطلسي أصبحت بحاجة إلى إعادة تقييم، وأن مستقبلها بات مهددًا بسبب طموحات ترامب.
وأضاف مويزه أن "عقد الصفقات هو نهج متلازم مع شخصية ترامب، حيث يتناسب هذا الأسلوب مع عقليته القائمة على الاستثمار، وجني الأرباح، وتحقيق المكاسب بأي وسيلة ممكنة. كما أن هذه الاستراتيجية أصبحت جزءًا لا يتجزأ من سياسة إدارته، التي تركز على انتزاع الفوائد الاقتصادية للولايات المتحدة، حتى لو أدى ذلك إلى تجاهل الحلفاء المقربين".
وتجدر الإشارة إلى أن واشنطن كانت قد أبدت مخاوف، منذ بداية تنفيذ مشروع نورد ستريم 2، على مصالحها الاقتصادية، إذ كانت ترغب في توسيع صادراتها من الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا، ورأت في نورد ستريم 2 منافسًا غير مرحب به. وهاجم ترامب، خلال ولايته الأولى، الأوروبيين قائلًا: "تريدون منا حمايتكم من الروس، وفي الوقت نفسه تدفعون لهم ثمن الغاز والنفط؟ هذا غير منطقي!". لكن الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022 منح الولايات المتحدة فرصة ذهبية، حيث عزز من صادراتها، وأتاح لها تحقيق أرباح بمليارات الدولارات.
