استقبلت الساحة الثقافية في الأراضي المنخفضة خبر صدور الترجمة الهولندية الأولى لكتاب "صناعة الإجماع: الاقتصاد السياسي للإعلام الجماهيري" لإدوارد هيرمان ونوعم تشومسكي مؤخرًا بكثيرٍ من الدهشة والحسرة. كانت الدهشة لأن الكتاب الصادر للمرة الأولى منذ 37 عامًا لا يزال طازجًا كما لو أنه كُتب بالأمس القريب. أما الحسرة، فهي في عدم القدرة على إيجاد جواب عن سؤال: كيف تأخرنا هذا الوقت كله في ترجمة هذه التحفة التحليلية للإعلام الجماهيري وأطره العامة التي لا تزال تحكمنا حتى اليوم؟
لم يكن الكتاب أول تعاون بين نوعم تشومسكي وأستاذ الاقتصاد في جامعة بنسلفانيا إدوارد هيرمان (1925-2017)، المتخصص في اقتصاديات وسائل الإعلام، إذ تعاونا في كتاب "العنف المضاد للثورة: حمامات الدم في الحقيقة والدعاية"، وفيه يدحض الكاتبان وبقوة أكذوبة أن أميركا هي ناشرة الحرية والديمقراطية حول العالم، وتحديدًا في فيتنام ولاوس وكمبوديا، والتي صوّر الإعلام الأميركي حمامات الدم فيها بأنها "مسعى نبيل من أجل الحرية والديمقراطية لشعوب تلك البلاد المضطهدة من قبل حكامها".
خمسة مرشحات تضبط سياسة وسائل الإعلام في العالم أجمع
واستكمالًا لمشروعهما البحثي حول المرشحات التي يعمل من خلالها الإعلام الجماهيري، نشر تشومسكي وهيرمان "صناعة الإجماع: الاقتصاد السياسي للإعلام الجماهيري" عام 1988، ويشرح تشومسكي في لقاءاته أن "صناعة الإجماع" مصطلحًا ليس من اختراعه هو أو هيرمان، بل وجداه في أعمال الفيلسوف الأميركي الرائد والتر ليبمان (1889-1974). يقول تشومسكي: "يأتي مصطلح 'صناعة الإجماع' من كتاب ليبمان 'الرأي العام' (1922). كان وقتها عضوًا في وكالة الدعاية الخاصة بالرئيس الأميركي وودرو ويلسون، والتي كانت تسمى بالطبع (لجنة الإعلام العام) أي (التضليل)، وفي هذه اللجنة صاغ إدوارد بيرنيه (1891 - 1995)، وهو أحد مؤسسي العلاقات العامة الحديثة، عبارة (هندسة الإجماع)، وهي الفكرة نفسها".
يشير المؤلفان في كتابهما إلى إحدى القصص التي روّجها الإعلام الأميركي آنذاك عن المجاعة التي وقعت في بلجيكا، ودفعت الجنود الألمان إلى أكل الأطفال البلجيكيين. كانت المجاعة قد اجتاحت بلجيكا بالفعل أثناء الحرب العالمية الأولى، أما قصة أكل الألمان للأطفال فكانت مختلقة تمامًا، لتأليب الرأي العام الأميركي ضدّ الوحوش الألمان. هنا يمكننا الرجوع إلى مثالنا الراهن في غزّة، وما أطلقته الدعاية الإسرائيلية من أكاذيب إثر "عملية طوفان الأقصى".
ويتوقف تشومسكي وهيرمان أمام خمسة مرشحات أو فلاتر تضبط سياسة جميع وسائل الإعلام الجماهيرية حتى يومنا هذا. يتعلق المرشح الأول بهيكل ملكية وسيلة الإعلام ومدى تركيز الجهة المالكة على الربح، سواء كان ذلك في وسائل الإعلام الحكومية أو الخاصة التي تملكها شركات أو أفراد. والمرشح الثاني هو الإعلانات، بوصفها نموذجًا ربحيًّا يمكن أن تكون له عواقب، أو يجبر وسائل الإعلام على الصمت عن فساد الجهة المعلنة. المرشح الثالث هو مصادر الأخبار، وكان هيرمان وتشومسكي ينتقدان المعلومات التي تقدمها المصادر الحكومية ومصادر الشركات، لأن هؤلاء المصرح لهم بالإعلان غالباً ما يتم تمويلهم أو اعتمادهم مصادرَ أساسيةً للأخبار.
اعتبر هيرمان أن أي نموذج لوسائل الإعلام الجماهيرية سيكون مقيدًا بالمرشحات الثلاثة السابقة، إضافة إلى مرشحين آخرين. فبناءً على ما سبق، يصبح المرشح الرابع هو ما أطلق عليه الكاتبان اسم flak، ويشير إلى الهجمات على وسائل الإعلام، مثل رسائل القراء الغاضبين أو التعليقات. أما المرشح الأخير فهو الأيديولوجيا، والتي تتغير بين زمن وآخر، في الثمانينيات كانت الأيديولوجيا معاداة الشيوعية؛ أما اليوم فهي معاداة الليبرالية الجديدة.
* شاعر ومترجم مصري
