تفاهمات "قسد" ودمشق... اتفاق تأسيسي لـ"سورية الجديدة"

منذ ٥ أيام ٢٢

وقّع الرئيس السوري أحمد الشرع، أول من أمس الاثنين، اتفاقاً مع قائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) مظلوم عبدي، يُجمع كثر على وصفه بالتاريخي والتأسيسي لسورية الجديدة، خصوصاً أنه ترافق أيضاً مع حراك على خط السويداء تخلله اجتماع بين الشرع وعدد من نشطاء السويداء. وأهمية تفاهمات "قسد" ودمشق تحديداً، لا تنبع فحسب مما تضمنه الاتفاق من بنود تعترف لأول مرة بـ"المجتمع الكردي مكوّناً أصيلاً في الدولة السورية، وضمان حقوقه الدستورية وحق المواطنة" فضلاً عن وقف إطلاق النار ودمج "قسد" في مؤسسات الدولة، بل لما تضمنه أيضاً من بنود أخرى كلّها تدفع باتجاه وحدة البلاد، وهو ما من شأنه إذا ما أضيف إلى تسريبات اتفاق السويداء، قطعُ الطريق أمام محاولات أطلّت بُعيد سقوط نظام بشار الأسد المخلوع في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي، لتحويل البلاد إلى "كانتونات" طائفية وعرقية متحاربة.

أهمية تفاهمات "قسد" ودمشق

وتكتسب تفاهمات "قسد" ودمشق أهميتها أيضاً من توقيتها بعد أيام من جرائم طائفية واسعة النطاق، تزامنت مع هجوم فلول النظام على الأمن في الساحل السوري، وما تبع ذلك من حملة عسكرية أطلقتها وزارة الدفاع لمطاردة الفلول، تخللتها عمليات قتل طائفي استهدفت مدنيين، ما أثار مخاوف جميع الأقليات، كما يأتي الاتفاق بعد دعوة زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان أواخر الشهر الماضي للحزب بحل نفسه وإلقاء السلاح، والذي ينتظر أن يترجم ليس في تركيا فحسب، بل في أماكن انتشار الحزب، بما في ذلك في سورية والعراق.

وفيما أدت الولايات المتحدة دوراً في تسهيل التفاوض الذي بدأ قبل فترة على الاتفاق، وترجم بأكثر من زيارة لمظلوم عبدي إلى دمشق، تزامن توقيت الاتفاق مع الموقف الأميركي الذي يميل للانسحاب من سورية. ويساعد الاتفاق، إذا ما انتقل إلى مرحلة التطبيق، على قطع الطريق أمام محاولات تقسيم البلاد ودفعها إلى سيناريوهات دموية أكثر عنفاً، فضلاً عن كونه أعاد نحو ثلث البلاد الغني بالثروات إلى سلطة الحكومة المركزية في دمشق، وهو ما يتطلب ليس إرادة محلية للأطراف السورية فحسب، بل دعماً أيضاً من تركيا على وجه التحديد، لا سيّما أن الأخيرة لم تتوقف عن التلويح بعملية عسكرية في شمال سورية ضد "قسد" و"وحدات حماية الشعب" الكردية، خصوصاً أن الجانب التركي يعتبر هذه القوات نسخة سورية من حزب العمال الكردستاني.

ورداً على تفاهمات "قسد" ودمشق أعلن مسؤول تركي، لوكالة رويترز أمس الثلاثاء، أن أنقرة تشعر "بتفاؤل حذر" تجاه الاتفاق بين "قسد" والسلطات السورية، مضيفاً أن تركيا تريد رؤية كيف سيُنفّذ الاتفاق أولاً، وقال: "لقد قدم التنظيم الإرهابي وعوداً من قبل أيضاً، لذلك نحن ننظر إلى التنفيذ بدلاً من التعبير عن النيّات هنا"، وأعلن أن الاتفاق "لم يغيّر من عزم تركيا على مكافحة الإرهاب"، وقال: "من غير المقبول أن يدخل هؤلاء الأشخاص (وحدات حماية الشعب) المؤسسات السورية دون كسر تسلسل قيادتهم. ثم هناك تسلسل قيادي داخل سلسلة قيادية. من المهم بالنسبة لهم أن يكونوا مندمجين، لا يدخلون مع الاستمرار في كونهم وحدات حماية الشعب"، مشدداً على أن أنقرة ما زالت مصرة على مطلبها، وهو تفكيك ونزع سلاح "الوحدات".

وفي وقت لاحق، اعتبر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أمس، في كلمة له خلال مأدبة إفطار أقيمت في أنقرة مع مواطنين فلسطينيين، على أن "أي جهد يبذل لتطهير سورية من الإرهاب هو خطوة في الاتجاه الصحيح". وأضاف الرئيس التركي أن "التنفيذ الكامل للاتفاق الذي تم التوصل إليه أمس سيخدم أمن سورية".

ثمانية بنود في الاتفاق

وتضمن الاتفاق بين الشرع وعبدي ثمانية بنود هي "ضمان حقوق جميع السوريين في التمثيل والمشاركة في العملية السياسية ومؤسسات الدولة كافة بناء على الكفاءة بغض النظر عن خلفياتهم الدينية والعرقية"، و"التأكيد على أن المجتمع الكردي مكوّن أصيل في الدولة السورية، وضمان حقوقه الدستورية وحق المواطنة"، كما أعلن الاتفاق وقفاً لإطلاق النار، و"دمج المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال وشرق سورية كافة ضمن إدارة الدولة، بما يشمل المعابر الحدودية والمطارات وحقول النفط والغاز"، فضلاً عن ضمان عودة المهجرين السوريين كافة إلى بلداتهم وقراهم وتأمين حمايتهم من الدولة السورية، ودعم الدولة السورية في مكافحتها لفلول الأسد وكل التهديدات التي تهدد أمنها ووحدتها، ورفض دعوات التقسيم وخطاب الكراهية ومحاولات بث الفتنة بين مكونات المجتمع السوري كافة. وأخيراً نص على أن تعمل وتسعى اللجان التنفيذية على تطبيق الاتفاق، بما لا يتجاوز نهاية العام الحالي. في المقابل لم يتطرق الاتفاق إلى مصير السجون الخاضعة لسيطرة "قسد" التي تضم مقاتلي تنظيم داعش.

مسؤول تركي: أنقرة تريد رؤية كيف سيُنفّذ الاتفاق أولاً
 

وفي إطار تفاهمات "قسد" ودمشق فإنه من المفترض "تطبيق الاتفاق في مدة لا تتجاوز نهاية العام الحالي من خلال لجان تنفيذية مختصة"، في محاولة للتغلب على التحديات التي من المتوقع أن تواجه الاتفاق. وكتب عبدي، في منشور على منصة إكس مساء أول من أمس، أن "الاتفاق فرصة حقيقية لبناء سورية جديدة تحتضن جميع مكوّناتها وتضمن حسن الجوار"، مضيفاً أنه "في هذه الفترة الحسّاسة، نعمل سوياً لضمان مرحلة انتقالية تعكس تطلعات شعبنا في العدالة والاستقرار". وتحدث الاتفاق عن عناوين عامة عالقة بين الإدارة الجديدة و"قسد"، ولم يخض بالتفاصيل، وتركها للجان مشتركة منوط بها البتّ في هذه التفاصيل، من المفترض تشكيلها خلال الأيام القليلة القادمة وفق مصادر مطلعة في دمشق. وهناك العديد من القضايا الشائكة التي يمكن أن تواجه تفاهمات "قسد" ودمشق لعل أبرزها مصير السلاح الذي تمتلكه قوات سوريا الديمقراطية، الذي قُدّم لها من التحالف الدولي لمحاربة "داعش"، وكان التحالف شكّل هذه القوات في عام 2015 وجعل من وحدات "حماية الشعب" الكردية على رأسها، خاصة لجهَتي القيادة والتوجيه، وخاضت هذه القوات، تحت غطاء ناري من طيران التحالف، حرباً طويلة الأمد مع التنظيم بدأت في ذلك العام، وانتهت مطلع 2019. وخرجت هذه القوات من الحرب لاعباً بارزاً في المشهد العسكري السوري، فشكلت "إدارة ذاتية" للإشراف على المناطق التي باتت تحت سيطرتها في محافظات الرقة ودير الزور والحسكة وبعض ريف حلب والتي تعد "سلّة غذاء" سورية ومستودع الثروات، وكان عبدي قد كشف، في حديث صحافي، أواخر العام 2019، أنّ عدد هذه القوات هو 80 ألفاً، إضافة إلى 30 ألفاً من قوات الأمن الداخلي.

تعزيز لوحدة الأراضي السورية

واعتبر رياض درار، وهو الرئيس السابق لمجلس سوريا الديمقراطية (الجناح السياسي لقسد)، في حديث مع "العربي الجديد"، في تفاهمات "قسد" ودمشق تعزيزاً لـ"وحدة الأراضي السورية وضمان حقوق جميع المكونات"، كما اعتبر الاتفاق "خطوة جادة من الطرفين"، مشيراً إلى أن تنفيذه "يعتمد على مشاركة جميع المكونات وتأكيد تطبيق حقوق الإنسان"، غير أن درار رأى أن "هذا الاتفاق ربما يتسبب في الضرر لبعض الأطراف والمصالح"، مشيراً إلى أن أبرز هذه الأطراف "فلول النظام السابق التي كانت تستفيد من حالة الانقسام والفوضى لتحقيق مصالحها، خاصة أن الاتفاق ينص على دعم الدولة في مكافحة فلول الأسد والتهديدات كافة التي تمس أمن ووحدة سورية". وأعرب عن اعتقاده أن "الجماعات المتطرفة والتنظيمات المتشددة والفصائل المسلحة قد تجد نفسها محاصرة مع توحيد الجهود العسكرية تحت مظلة الدولة"، وبرأيه فإن "الاتفاق قد يهدد مصالح القوى الأجنبية التي كانت تستفيد من استمرار حالة عدم الاستقرار في سورية، خاصة إذا كانت تدعم فصائل أو جماعات معينة لتحقيق أجنداتها".

ولطالما كانت "قسد" في مرمى استهداف القوات التركية، التي شنت ضدها أكثر من عملية برية، فضلاً عن الحرب الجوية المفتوحة منذ سنوات عدة، ومن المفترض أن تُخرج "قسد" كل العناصر الأجنبية من الأراضي السورية لتسهيل تنفيذ هذا الاتفاق الذي "رحّب به كل السوريين"، وفق المحلل السياسي المقرب من "الإدارة الذاتية" إبراهيم مسلم، الذي اعتبر، في حديث مع "العربي الجديد"، أن تفاهمات "قسد" ودمشق "خطوة للسلام في كل سورية"، وأعرب عن اعتقاده أن تنفيذ تفاهمات "قسد" ودمشق "يتوقف على الطرفين"، مشيراً إلى أن الاتفاق "ليس عسكرياً فحسب"، داعياً للاستفادة من تجربة "الإدارة الذاتية" في مؤسسات الدولة، خاصة في مجالات المجتمع المدني والمرأة، مضيفاً: أنّ هناك تحديات ستكون أمامه خاصة موقف تركيا منه. ويبدو أن الخشية من تعرضها لخطر يستهدف وجودها كلّه في حال الانسحاب الأميركي من شمال شرقي سورية، وتفادي أي هجوم بري تركي وفصائل سورية متهمة بارتكاب تجاوزات وعمليات قتل خارج القانون، كان المحرك والدافع الرئيس أمام القيادات الكردية للاتجاه غرباً إلى دمشق، والتفاهم مع الرئاسة السورية على تسليم الشمال الشرقي من البلاد للسلطات.

ووصف المحلل السياسي فريد سعدون، في تصريح لـ"العربي الجديد"، الاتفاق بـ "التاريخي"، مشيراً إلى أن تفاهمات "قسد" ودمشق "تخدم السلم الأهلي وتحافظ على الأمن والاستقرار"، مضيفاً: لأول مرة في تاريخ سورية يُعتَرف بحقوق الشعب الكردي في البلاد، كان حزب البعث ينكر أي وجود للأكراد في سورية، وتابع: الآن كما أعتقد الأمور تأخذ المنحى الصحيح على هذا الصعيد، وبيّن أن الاتفاق "حدد الخطوط العريضة للتوصل لاتفاق شامل يحفظ حقوق الشعب الكردي وينهي مشكلة السلاح"، معرباً عن اعتقاده أن العراقيل أمام الاتفاق "ستكون خارجية"، مضيفاً: هناك جهات ليس لها مصلحة في استقرار سورية، وأعتقد أن طريقة دخول "قسد" إلى الجيش السوري تحتاج لوقت حتى يجري التوصل لاتفاق.

رياض درار: الاتفاق تعزيز لوحدة سورية وضمان لحقوق المكوّنات

من جانبه، رأى الصحافي هوشنك حسن، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن الطرفين خرجا من تفاهمات "قسد" ودمشق بـ"مكاسب من الاتفاق"، ذلك أن الحكومة كسبت عودة الموارد الاقتصادية إلى الخزينة، و"قسد" حصلت على اعتراف رسمي بكونها قوة في شمال شرقي سورية، وأعرب عن اعتقاده أن تعهد "قسد" وفق الاتفاق بـ"دعم الدولة السورية في مواجهة التهديدات التي تمسّ أمنها ووحدتها"، يعني أنه من الممكن مشاركة هذه القوات بمهام خارج نطاق نفوذها لمحاربة فلول للنظام.

ولا يستبعد البعض أن يواجه الاتفاق معارضة تيار متشدد في وحدات "حماية الشعب" الذراع العسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي، يرفض أي اتفاق مع دمشق لا يُبقي هذه الوحدات سلطةَ أمرٍ واقع في شمال شرقي سورية، خاصة في محافظة الحسكة، مع العلم أن حزب الاتحاد الديمقراطي أعلن، في بيان أمس الثلاثاء، دعمه للاتفاق، واعتبر أن تفاهمات "قسد" ودمشق خطوة أولى نحو بناء سورية المستقبل. وأشار إلى أن "هذا الاتفاق يأتي ثمرةً لنضال الشعوب والثورة السورية، وإفشال جميع المؤامرات التي استهدفت وحدة سورية وعيشها المشترك"، معتبراً أن "المرحلة الراهنة تتطلب التحول الديمقراطي والتغيير لتحقيق آمال وتطلعات السوريين"، مشيداً بدور أوجلان في إطلاق مبادرة السلام وخريطة الطريق بتاريخ 27 فبراير/شباط الماضي، بالإضافة إلى جهود الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية في إحلال السلام وحل القضايا بالحوار والسبل السلمية"، وأكد أن "الاتفاق وضع قضايا جميع المكونات على طريق الحل وفق أسس قانونية ودستورية، مع التركيز على ضمان حقوق جميع السوريين، وحل القضية الكردية، وعودة المهجرين، ووقف إطلاق النار في الأراضي السورية كافة، وإنهاء مرحلة الإقصاء والتهميش".

وساد المناطقَ التي تقع تحت سيطرة "قسد" تفاؤل حذر بعد توقيع الاتفاق، تجلّى في خروج المواطنين في تظاهرات ابتهاج، معتبرين أن تفاهمات "قسد" ودمشق جنّبت القسم الأهم من بلادهم دورات عنف جديدة، لكن إبراهيم العبود، وهو من سكان ريف الرقة الغربي، عبّر في حديث مع "العربي الجديد"، عن خشية من وجود عقبات على طريق تنفيذ الاتفاق، وأضاف: أنا مرتاح جداً بعد الاتفاق، لكن ننتظر التنفيذ، ونريد عودة مؤسسات الدولة كلها إلى المنطقة خاصة التعليمية، ورأى أن هناك شبكات فساد ونفوذ ستكون "أكثر المتضررين من هذا الاتفاق"، مشيراً إلى أنها ستلعب دوراً سلبياً لعرقلة تنفيذه أو على الأقل تأخير هذا التنفيذ.

وفي السياق، رأى عدنان الحسن، في حديث مع "العربي الجديد" وهو من القاطنين في مدينة الرقة، أن الاتفاق "وضع حداً لكل حملات التحريض بين مكونات المنطقة خاصة العرب والأكراد"، مبدياً تفاؤلاً بتطبيق الاتفاق خلال العام الحالي، مضيفاً: هذا الاتفاق مفيد لكل الأطراف، وآمَلُ أن ينعكس إيجاباً على حياة السوريين، وتابع: موارد المنطقة ستعود إلى خزينة الدولة وهذا سيكون له أثر كبير على تحسّن الحالة المعيشية للناس.

فريد سعدون: لأول مرة يُعترف بحقوق الشعب الكردي

وفي القامشلي في أقصى الشمال الشرقي من سورية، هناك "ترحيب بالاتفاق من الشارع الكردي"، وفق مصطفى حاج أحمد، الذي أشار في حديث مع "العربي الجديد" إلى أن "قسد" لا تمثّل كل الأكراد في سورية، مضيفاً: هذا اتفاق مع فصيل عسكري وليس اتفاقاً سياسياً مع القوى الفاعلة في المشهد الكردي برمته. إلّا أن حاج أحمد رأى أن الاعتراف بالأكراد "مكوناً أصيلاً" في الدولة "بارقة أمل في وضع حد لكل الأصوات التي ارتفعت بعد سقوط نظام الأسد داعية إلى تقسيم البلاد".

إلى ذلك، رحّب رديف مصطفى، نائب رئيس رابطة الأكراد المستقلين في سورية، بالاتفاق، مشيراً، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أنه "سيسهم في بناء سورية الحرة الموحدة أرضاً وشعباً بعيداً عن نموذج المحاصصة الفاشل، ويؤكد على المشاركة السياسية الوطنية دون تمييز"، مضيفاً: هناك ترحيب شعبي واسع، ورأى أن "الاعتراف بالحقوق الثقافية والاجتماعية للأكراد السوريين ودسترتها، مسألة مهمة"، معرباً عن اعتقاده أن الاتفاق "سيواجه بعض العراقيل لأن الشيطان دائماً يكمن في التفاصيل"، مبدياً الخشية من دور إيراني في عرقلة الاتفاق وتخريبه "عبر قيادات من حزب العمال الكردستاني تابعين لها"، مضيفاً: هؤلاء لهم أتباع سواءً داخل "قسد" أو "الإدارة الذاتية".

قراءة المقال بالكامل