جدلية الأمن والسياسة في سورية

منذ ١٥ ساعات ١٩

أن تشنّ عصاباتٌ من فلول النظام البائد هجوماً عسكرياً مباغتاً في الساحل السوري على قوات الأمن والجيش فهذا ليس مفاجئاً من مجموعة ما تزال ترتبط أيديولوجياً ونفسياً وطائفياً بنظام الأسد، ولها مصلحة مباشرة بإسقاط نظام الحكم الجديد. وأن تخرج في السويداء مظاهراتٌ مندّدة بسياسات الإدارة الجديدة، تنتهي بإنزال العلم السوري، ورفع الراية الدرزية في محلّه، لم يكن مفاجئاً، إذ تصرّفت بعض فئات اجتماعية، منذ بداية الثورة السورية عام 2011، على أساس هُويَّاتي ضيّق. غير أنه لم يقتصر على أقلّيات، بل برز ايضاً بين الأكثرية، والمقصود هنا رجالات الأمن والجيش الجديد من الطائفة السنّية، الذين ارتكبوا إعداماتٍ ميدانيةً في الشوارع لأشخاص عزّل مدنيين.

ليس مهمّاً من الناحية المعرفية التساؤل ما إذا كانت الأقلّيات ما تزال تفكّر وتعمل على أساس هُويَّاتي، خصوصاً في اللحظات التاريخية الفارقة، حين يكون الاجتماع السياسي مهدّداً، أو مضطرباً وغير واضح المعالم، بل إن التساؤل عن أسباب سلوك الأقلّيات مسلكاً هُويّاتياً يغدو عبثياً لا قيمة معرفية له، في ظلّ مجتمع ودولة قاما (عقوداً خلت) على أساس عمودي، لا مواطنة فيه. يكون السؤال معرفياً حين يُطرح على الشكل التالي: ما هي الأسباب التي دفعت علويين في الشمال الغربي من سورية إلى البدء بعمليات عسكرية، بعد ثلاثة أشهر من سقوط نظام الأسد، وتشكّل إدارة حكم جديد؟... وهو سؤال ينطبق أيضاً على مناطق درزية؟ وربّما لاحقاً على كردية؟... لا تكفي الإجابة عن هذا السؤال اعتماداً على تباين الهُويَّة الاجتماعية: طوائف منفتحة ومتحرّرة اجتماعياً في مقابل منظومة حكم إسلامية منغلقة اجتماعياً يمكن أن تفرض رؤيتها على الجميع. كما لا تكفي الإجابة اعتماداً على التنافر الهُويَّاتي والأيديولوجي أيضاً بين الطرفَين، فمن نافلة الفعل الطبيعي أن تُعبّر الأطراف عملياً عن رؤيتها، محمولة بحمولات سياسية أو اجتماعية أو طائفية.

السؤال المهم: ما الذي دفع فلول النظام إلى الانتقال من حالة القوة إلى حالة الفعل، وما الذي دفع دروزاً إلى رفع علمهم الخاصّ بدلاً من العلم السوري؟... هنا جوهر المسألة، فالنزعات الذاتية المحكومة بأيديولوجيات ورغبات نفسية ومشاعر طائفية موجودٌ دائماً ولا تختفي بسهولة، لكنّها، وإن كانت شرطاً للتحرّك والفعل، فإنها ليست سبباً مباشراً لذلك. لقد كان للسلوكات الفردية للعناصر الأمنية والعسكرية في الإدارة الجديدة، من جهة، وغياب آلية حوار سياسي مع قيادات المكوّنات الاجتماعية السورية، خصوصاً مع أبناء الطائفة العلوية، من جهة أخرى، دورٌ رئيسٌ في استمرار المخاوف لدى الأقلّيات.

تعاملت الإدارة الجديدة بمركزية شديدة، فقامت بخطوات غير مدروسة عبر تشكيلها حكومة من لون واحد، ولجنة حوار وطني، ثمّ لجنة للإعلان الدستوري

كشفت الأشهر الثلاثة الماضية من حكم الإدارة الجديدة افتقادهم فهماً للعلاقة الجدلية بين الأمن والسياسة، خصوصاً في المراحل الخطيرة أو الانتقالية. تعامل الحكام الجدد في الملفّين الأمني والسياسي من منظار أحادي الجانب. صحيحٌ أن سيطرتهم على الحكم جاءت بأقلّ التكاليف الدموية، وصحيحٌ أنهم أعلنوا من اليوم الأول انفتاحهم على جميع المكوّنات السورية باعتبار أفرادها مواطنين سوريّين، وصحيحٌ أنهم أعلنوا أنهم لن يتعرّضوا إلا لمجرمي النظام السابق، إلا أن بناء الدول لا يقوم على التطمينات والخطابات السياسية العامّة.

في الملفّ الأمني، تعاملت السلطة الجديدة وفق حكمٍ شديد المركزية، فأعلنت أن جميع المليشيات يجب أن تحلّ نفسها وتنخرط في الجيش الجديد أفراداً لا مجموعاتٍ، وليس مقبولاً بقاؤها على هذا النحو. وعلى الرغم من صحّة الدعوة نظرياً (إذ هكذا تُبنى الجيوش الحديثة على أساسٍ فرديٍّ لا على أساس مكوّنات اجتماعية لها صبغة هُويَّاتية معيّنة)، لكن الواقع السوري المتمثّل بوجود قوىً عسكريةٍ ذات لون هُويَّاتي خاص، ولها وزنٌ وارتباطاتٌ إقليمية ودولية، كان يحتم قبول دخولها في الجيش فصيلاً قائماً بذاته في المرحلة الأولى من بناء الدولة، على أن يتم لاحقاً (وخلال سنوات) عملية انصهار تدريجية داخل الجيش، وهذا ما حدث في بعض التجارب التاريخية، فالأولوية الرئيسة في مراحل الانتقال المفصلية، هي عملية بناء الثقة والاندماج في مؤسّسةٍ عسكريةٍ واحدة، بغضّ النظر عن طريقة توزّع الأفراد والجماعات فيها، فلكلّ تجربة خصوصيتها التاريخية.

على الرئيس وإدارته العمل بجدّية على ضمان التوافق مع المكوّنات السورية كلّها

في الملفّ السياسي، تعاملت الإدارة الجديدة بمركزية شديدة أيضاً، فقامت بخطوات غير مدروسة عبر تشكيلها حكومة من لون واحد، ولجنة حوار وطني، ثمّ لجنة للإعلان الدستوري. والغريب أن سلوك السلطة السياسي في هذا المجال كان يتحرّك وفقاً لمعطيات الخارج، لا الداخل، بمعنى أن هذه الخطوات كانت موجّهة إلى المجتمع الدولي من أجل الحصول على دعمه السياسي والاقتصادي، ولم تكن مبنيةً تماماً على اهتمامات فرقاء الداخل السوري. يبدو من المعطيات القائمة، أن إدارة أحمد الشرع لم تدرك العلاقة الوثيقة بين الأمن والسياسية، فلا تتحقّق الأولى من دون الثانية، فالبداية يجب أن تكون سياسيةً، وما إن يتمّ التوافق السياسي بين فرقاء الوطن حتى تصبح المسائل الأمنية والعسكرية والاقتصادية تحصيل حاصل.

من هنا، الأولية الجوهرية لبناء سورية الجديدة، وللحيلولة دون انزلاق الأمور إلى فوضى تهدّد البلد بأكمله، وعلى الرئيس وإدارته العمل بجدّية على ضمان التوافق مع المكوّنات السورية كلّها، حتى لو اضطرّ، في هذه المرحلة، إلى تقديم تنازلات عسكرية وسياسية، فمن دون نشوء ثقة وطنية بين الجميع، تبدو سورية متجهةً إلى المجهول. إنجاز هذه الأولويات مهمة الدولة الجديدة بالدرجة الأولى، قبل أن تكون مهمة الآخرين، شركاء الوطن.

قراءة المقال بالكامل