وسط الحرب التي كانت تشنّها إسرائيل على الفلسطينيين في قطاع غزة المحاصر، حسم الطبيب الجرّاح البريطاني نظام محمود أمره بالتوجّه إلى هناك لتقديم ما أمكنه من مساعدة في مجال العمليات الجراحية الطارئة في ظلّ الحرب، وذلك بعد سنوات طويلة من العمل في الخدمة الصحية الوطنية بالمملكة المتحدة. وفي مقال نشره محمود بعد عودته من قطاع غزة المنكوب، في صحيفة ذا غارديان البريطانية، اليوم الأحد، يصف الطبيب المتقاعد ما شهده بأنّه جحيم خصوصاً بحقّ الأطفال، فيما يتّهم بلاده بالضلوع في ذلك.
ويروي الطبيب الجرّاج البريطاني اللحظات الأولى لدخوله إلى قطاع غزة في مركبة تابعة للأمم المتحدة، وكيف كان ذلك "تجربة غريبة ومربكة من التطرّف للحياة"، مشيراً إلى أنّ الموكب نفسه الذي دخل فيه إلى القطاع تعرّض لإطلاق نار من القوات الإسرائيلية بعد أسبوعَين من وصوله إلى وجهته. ويرى محمود أنّ قطاع غزة هو المكان "الأكثر خطورة للعمل في العالم"، لا سيّما أنّ "أكثر من 300 عامل إغاثة وألف عامل رعاية صحية قُتلوا فيه منذ بداية الحرب" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ويُشبّه محمود المَشاهد التي وثّقها خلال رحلته عبر منطقة جنوب قطاع غزة إلى موقع عمله في خانيونس بأنّها صور غير واضحة لهيروشيما، ويشرح أنّ "المباني كلها سُوّيت بالأرض، على بعد أميال عديدة حولها، في مشهد مغبرّ". يضيف أنّ باستثناء عدد قليل من اللصوص الذين كانوا يحملون السلاح، "غاب الناس بطريقة ملحوظة".
Prof. Nizam Mamode, a member of a MAP-supported Emergency Medical Team, has shared his experience in Gaza with the @CommonsIDC.
He recalled "drones would come down and pick off civilians— children. We had description after description. This is not an occasional thing."
(1/2) https://t.co/B4Hg5ZIL2W
مستشفيات ترتعد في غزة وسط القصف والضحايا بالجملة
وفي مجمّع ناصر الطبي بمدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة حيث تطوّع الطبيب الجرّاح من ضمن فريق شكّلته جمعية العون الطبي للفلسطينيين (ماب) في أغسطس/آب 2024، يقرّ بأنّه سجّل "فوضى لا يمكن تصوّرها تعود إلى العصور الوسطى". ويخبر بأنّ "أقسام المستشفى كانت مليئة بالجرحى، وكانت الأسرّة تتكدّس في الغرف والممرّات وتتناثر على الشرفات المفتوحة، وفيما تحيط بعدد كبير منها فرش متّسخة على الأرض ينام عليها الأقارب لمساعدة الممرّضات في رعاية المرضى"، مشدّداً على أنّ "النظافة كانت معدومة".
يضيف محمود، في مقاله الذي نُشر في صحيفة ذا غارديان، أنّ إدخال الصابون والشامبو وجل التنظيف إلى قطاع غزة كان ممنوعاً، فيما الإمدادات الطبية التي تخضع كذلك لقيود كانت محدودة. ويخبر أنّ "في مرّات عدّة، وجدت يرقات في الجروح التي كنت أفحصها"، مشيراً إلى أنّ "زميلاً لي اضطرّ في قسم العناية المركّزة إلى إزالة يرقات من حلق أحد الأطفال عندما وجدها تسدّ جهاز التنفّس الصناعي". ويتابع أنّ "في نقاط مختلفة، نفد مخزوننا من القفّازات المعقّمة والأردية والستائر".
ويحكي الطبيب الجرّاح البريطاني كيف كان المستشفى، حيث تطوّع، يرتعد بانتظام من جرّاء سقوط القنابل في الجوار، تماماً كما هي حال مستشفيات غزة الأخرى بمعظمها. ويَذكر أنّ مجمّع ناصر الطبي تعرّض بالفعل لهجوم، في فبراير/شباط 2024، الأمر الذي أسفر عن مقتل عدد من الموظفين والمرضى والجرحى. ويوضح محمود أنّهم كانوا يستقبلون يوماً ضحايا عملية استهداف أو عمليتَين من تلك التي يسفر عنها سقوط أعداد كبيرة من الضحايا، الأمر الذي "يحوّل قسم الطوارئ إلى دوّامة من الجثث والدماء والأنسجة والأطفال الصارخين، وكثيرون منهم فقدوا أطرافهم. وفي العادة يعني هذا سقوط ما بين عشرة و15 قتيلاً وما بين 20 و40 جريحاً مصاباً بجروح خطرة".
ويشير الأستاذ في زرع الأعضاء إلى أنّ مجمّع ناصر الطبي كان يستقبل الضحايا "في كلّ وقت، ليلاً ونهاراً، وفي بعض الأحيان كنّا نعمل بصورة متواصلة لأكثر من 24 ساعة". ويتحدّث عن "قلق دائم"، إذ إنّ "القصف المنتظم القريب من المستشفى قد يستهدفنا في يوم"، لافتاً إلى أنّه اضطر في إحدى العمليات الجراحية إلى استخراج الدم بيده، كذلك اضطرّ إلى إجراء عمليات من دون شاش طبي.
طائرات إسرائيلية تتصيّد المدنيين الهاربين من القصف في غزة
ويخبر الطبيب الجرّاح البريطاني، في مقاله المنشور اليوم في صحيفة ذا غارديان، عن أصعب المشاهد التي لن تفارق ذهنه أبداً؛ هي تعود إلى أطفال جرحى. ويفيد بأنّ "في إحدى الأمسيات، أجريت عملية جراحية لطفل يبلغ من العمر سبعة أعوام، أصيب برصاصة أطلقتها إحدى الطائرات بدون طيار التي تهبط فوراً بعد القصف لتصيد الهاربين (من آلة الحرب الإسرائيلية)، وجميعهم من المدنيين. وقد أصيب (الطفل) بجروح في الكبد والطحال والأمعاء، وكان جزء من معدته بارزاً من صدره. كنت سعيداً جداً برؤيته على قيد الحياة. لكنّنا كنّا نرى جرحى مثله في كلّ يوم".
ويذكر محمود أنّ الحالات التي عالجوها في مجمع ناصر الطبي بمدينة خانيونس كانت تعود بمعظمها إلى نساء وأطفال. ومن هذه الحالات المزعجة خصوصاً، بحسب تعبيره، "الأطفال الذين أصيبوا بإصابة واحدة، رصاصة في الرأس"، وقد أتت إصاباتهم "بوضوح نتيجة إطلاق نار متعمّد من قناصة". ويشدّد الطبيب البريطاني: "عملت في عدد من مناطق الصراع، لكنّني لم أرَ قطّ مثل هذا القدر من الموت والدمار بين المدنيين. ولا شكّ في أنّ هذا كان مختلفاً نوعياً عن أيّ حرب أخرى، سواء في الوقت الراهن أو في العقدَين الماضيَين".
من جهة أخرى، يتناول الطبيب الجرّاح البريطاني دور بلاده في الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، وكيف عمل أكثر من 30 طبيباً وممرّضاً من المملكة المتحدة في غزة العام الماضي ووجّهوا رسالة إلى رئيس الحكومة كير ستارمر في أغسطس/آب 2024 أكدوا فيها أنّهم شهدوا بانتظام على أدلّة على الاستهداف المتعمّد للأطفال (مثلما فعل 99 عاملاً صحياً أميركياً كتبوا رسالة مماثلة إلى الرئيس الأميركي السابق جو بايدن في أكتوبر/تشرين الأول 2024)، في وقت يصف فيه الفلسطينيون ما يتعرّضون له بأنّه إبادة جماعية، علماً أنّ خبراء كثيرين في مجال حقوق الإنسان يتبعون للأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية ومنظمات أخرى يؤكدون أنّ ما ترتكبه إسرائيل قد يرقى إلى مستوى الإبادة الجماعية.
ولا يخفي محمود شعوره بالذنب بعد عودته في سبتمبر/أيلول الماضي إلى بلاده، لأنّه قادر على "العودة إلى حياة سهلة في حين يذهب ملايين آخرون إلى فرشهم جائعين، متسائلين عمّا إذا كانوا سوف يُفجّرون ويتحوّلون إلى أشلاء بين عشيّة وضحاها". وفي ختام مقاله في صحيفة ذا غارديان، يرى الطبيب الجرّاح البريطاني أنّ القوّة السياسية قد تتطلّب تسويات وتنازلات في الكواليس، لكنّ ثمّة خطوطاً حمراء أخلاقية ينبغي ألا نتجاوزها أبداً، مهما كانت قيمة التكلفة السياسية. ويشدّد على أنّ "الإبادة الجماعية في قطاع غزة هي الاختبار الجوهري للشجاعة الأخلاقية للقادة في القرن الحادي والعشرين. وحتى الآن، فشلت إبادة شعبنا. ربّما توقّف القصف الآن، لكنّ ضرورة محاسبة أولئك الذين ارتكبوا الجرائم ليست أقلّ إلحاحاً".
