في لبنان المنكوب اقتصادياً قصة غريبة أصبحت محط اهتمام الإعلام الداعم للمافيا المصرفية من جهة والذي غالباً ما يدور في فلك قوى ما كان يعرف بـ14 آذار، وللمليشيات السياسية من جهة أخرى التي غالباً ما تجد مؤسسات إعلامية تدور في فلك أحزاب ما كان يعرف بالممانعة، للدفاع عنها. القصة ترتبط بالملياردير جورج سوروس الذي يستخدم اسمه لتبرير الأزمة الاقتصادية الأعنف في العالم التي يواجهها لبنان بعدما تم نهبه على مدار أكثر من 30 عاماً من قبل المافيا والمليشيات التي استلمت زمام السلطة بعد انتهاء الحرب الأهلية.
وفي الخلفية، تقدم ثلاثة محامين بإخبار ضد كل من مؤسستي "درج" و"ميغافون" الإعلاميتين، بتهمة تلقي تمويل من جورج سوروس الذي يسعى، بحسب الإخبار، إلى "الفتك بالاقتصاد اللبناني"، فبعد ست سنوات من انكشاف الأزمة النقدية في لبنان، وما تبعها من انهيارات اقتصادية واجتماعية ومعيشية، وفيما لم تتم محاسبة أي مسؤول حتى اللحظة عن عملية النهب الكبرى، باستثناء حاكم مصرف لبنان رياض سلامة القابع في السجن مكتئباً، أصبح سوروس المتهم الأساس باستهداف اقتصاد لبنان. وإن كانت هذه الجزئية تثير الكثير من علامات الاستفهام والتعجب والفواصل والنقاط، إلا أن ما كتبه المحامون في نص الإخبار يزيد من وقع المهزلة.
يرد في الإخبار اتهام جورج سوروس بأنه يمول حملات إعلامية "تزعزع الثقة بلبنان"، إضافة إلى "النيل من مكانة الدولة المالية، وزعزعة الثقة بمتانة النقد الوطني وسندات الدولة، وحض المودعين على سحب أموالهم وبيع السندات، وإثارة الفتنة والنيل من هيبة الدولة والشعور القومي". وطبعاً لـ"مكانة الدولة المالية" مسار طويل من العبث، إذ يعتبر لبنان حالياً دولة غير قادرة على سداد ديونها، ما يعني أنها مفلسة، وسبب الإفلاس هذا ليس نتيجة لحملات سوروسية، وإنما بسبب السياسات النقدية والمالية التي بدأت بتثبيت الليرة عند معدلات وهمية، لتهوي الليرة اللبنانية التي يصفها المحامون بأنها "متينة" حالياً، بأكثر من 98% منذ العام 2019 بعد انكشاف الأزمة.
كما أن "المكانة المالية" المختلة هذه تعود إلى البذخ في معدلات الفائدة بعد الحرب لجذب الودائع من جهة، وتحقيق ثروات ضخمة لزعماء المليشيات والمصارف، على حساب التأسيس لاقتصاد صلب ومنتج. أيضاً، تدخل في هذا الإطار عمليات النهب المنظمة التي كانت تطاول المال العام اللبناني، من خلال السيطرة على القطاع العام وتحويله إلى مراتع حزبية للتوظيف، ودجاجة تبيض ذهباً من الصفقات وتوزيع المشاريع والاستثمارات، مع تقاسم القروض المدعومة بين مليارديرات وزعماء وإعلاميين فاسدين وغيرهم من المستفيدين من منظومة النهب، مروراً بالموازنات العامة التي تعتبر آلية لتعظيم المنافع من أموال الناس وضرائبهم، والتي لا تزال حتى اللحظة تقر بشكل يخالف القانون والدستور مع الامتناع عن قطع حسابات السنوات الماضية، ما يقي الناهبين من التدقيق والمحاسبة.
وقد وصل الأمر بحاكم مصرف لبنان، الذي كان يهندس السرقات عبر تمويل المنهبة من مصرف لبنان، إلى اعتماد الهندسات المالية التي بددت مليارات الدولارات لحساب عدد من المصارف. ويقبع حاكم مصرف لبنان في السجن، حيث أثبت عليه الفساد، بعدما كان حبيب العصابة المفضل، والذي تم التجديد له بإجماع كل الأحزاب في حكومة العام 2017. تعداد تفاصيل الفساد الاقتصادي في لبنان يحتاج إلى صفحات، ووسط خنق المافيا لغالبية الأجهزة الرقابية في لبنان، كان كشف الفساد شبه محصور بمجهود قلة من الإعلاميين الذين لم تستطع المافيا إغراءهم، وإن انطلقت مبادرات رسمية في إطار ملاحقة ملفات فساد محددة، فهي غالباً ما تكون ضمن آلية الصراع ما بين أعضاء المافيا، حيث تقفل الملفات غالباً بعد اتفاق المتخاصمين على الحصص في الصفقات.
أما ربط السوروسية بـ"حض المودعين على سحب أموالهم"، ففيه الكثير من الجهل الاقتصادي والقانوني، إذ إن ودائع اللبنانيين محتجزة من دون أي سند قانوني أو دستوري، وسحب الأموال هو حق لا يمكن المجادلة به وليس اتهاماً بالمرة، ومنع آلاف اللبنانيين من سحب ما يحتاجونه من ودائعهم لمدة ست سنوات هو محط العديد من الدعاوى المرفوعة ضد الجهاز المصرفي. وعودة إلى الإخبار إياه، فهو يتهم جورج سوروس بأنه "من أكبر داعمي الصهيونية وأمواله تتدفق إلى مجموعات في كيان العدو الإسرائيلي في فلسطين المحتلّة".
سبب الإفلاس هذا ليس نتيجة لحملات سوروسية، وإنما بسبب السياسات النقدية والمالية التي بدأت بتثبيت الليرة عند معدلات وهمية، لتهوي الليرة اللبنانية بأكثر من 98% منذ العام 2019 بعد انكشاف الأزمة.
لكن حين تتبع ارتباط الأخير بإسرائيل، يتبين أن بنيامين نتنياهو، المتهم بالفساد هو الآخر، اتهم سوروس في أكثر من مناسبة بأنه معاد لإسرائيل. في العام 2017 مثلاً، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية إيمانويل نحشون: "جورج سوروس يعمل باستمرار على تقويض الحكومات المنتخبة ديمقراطياً في إسرائيل"، مضيفاً أن سوروس يمول منظمات "تشوه سمعة الدولة اليهودية وتسعى إلى حرمانها من حق الدفاع عن نفسها".
خلال صيف عام 2017، دفع ميكي زوهار، عضو الكنيست من حزب الليكود، بمشروع قانون من شأنه تقييد مصادر التمويل للمنظمات غير الحكومية الإسرائيلية، وقد أُطلق عليه اسم "قانون سوروس". وفي العام 2018 اتهم نتيناهو سوروس بأنه يمول حملة واسعة النطاق ضد خطة الحكومة الإسرائيلية لترحيل المهاجرين وطالبي اللجوء الأفارقة. وفي العام 2019 نفى نتنياهو تقريراً حول تمويل حزبه الليكود لشبكة من الحسابات المزيفة على وسائل التواصل خلال الحملة الانتخابية، متهماً الملياردير اليهودي المجري جورج سوروس وتحالف أزرق أبيض بالوقوف وراء "التشهير الروبوتي".
ووفق وثيقة من موقع الكونغرس الأميركي بتاريخ 13 يونيو/ حزيران 2024، أدان مجلس النواب الأميركي "الفوضى والتمرد في الجامعات، وجورج سوروس وكل من يمول المجموعات التي تقف وراء الاحتجاجات (الرافضة للعدوان على غزة)"، مع دعوة "جميع السياسيين والأحزاب السياسية من جميع الأيديولوجيات إلى رفض قبول أي مساهمات لأي الغرض من المنظمات والكيانات التي تمول الأعمال المعادية لأميركا والمظاهرات المعادية للسامية".
ونشرت رابطة مكافحة التشهير (ADL) الإسرائيلية الأسبوع الماضي تقريراً بعنوان "من يمول الجامعات المعادية لإسرائيل في أميركا؟"، ورد فيه "مؤسسة تعزيز المجتمع المفتوح (FPOS)، ومعهد المجتمع المفتوح، وهما مؤسستان رئيسيتان لمنح التمويل يمولهما الليبرالي والملياردير جورج سوروس"، واللتان "تمولان جماعات معادية لإسرائيل". وبحسب تقرير في 2023 لقناة "فوكس نيوز"، فقد انتقد سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة جورج سوروس لضخه 15 مليون دولار إلى منظمات غير حكومية تدعم فلسطين، واصفاً إياها بأنها "مخزية". وزعم السفير أن سوروس حوّل مليارات الدولارات إلى المنظمات الداعمة لمقاطعة إسرائيل (BDS).
ويشير التقرير إلى أن جمعيات سوروس الخيرية ترى أن "مصدر العنف" هو "الفصل العنصري الإسرائيلي والاحتلال وتواطؤ الولايات المتحدة في هذا القمع". وجاء في نص الإخبار "سوروس ارتكب ثلاث كوارث عالمية لا يمكن أن يطويها التاريخ، الأولى حين كسر (بنك إنكلترا)، والثانية أزمة السوق الآسيوية، والثالثة انهيار العملة التايلاندية، وغيرها من المشكلات في عدد من الدول الأخرى".
وإن كان عدد كبير من الأغنياء، من ضمنهم سوروس، يجمعون ثرواتهم عبر استخدام آليات اقتصادية تسبب آلاماً وأزمات للشعوب والدول، إلا أن تشبيه لبنان المنهوب ببريطانيا وإندونيسيا وغيرهما من الدول التي تحظى باقتصادات قوية وبسلطات أقوى، ومقاربة الأزمة اللبنانية من هذه الزاوية المبتورة، يطرحان ألف سؤال حول طريقة التحليل العجيبة التي تنفي عشرات التقارير والمستندات التي تثبت مسؤولية الفساد العظيم الذي أفلس لبنان، من خلال اعتماد مقاربات "أوربانية" تموه الحقائق.
والأمر هنا ليس مبالغة، إذ كما يشن رئيس الوزراء المجري العنصري فيكتور أوربان بمعاونة نتنياهو حملة ضد سوروس منذ العام 2017 واتهامه بأنه يدعم "هجرة المسلمين" إلى أوروبا لدرجة نشر لافتات في المجر كتب عليها "اليهودي النتن" لوصم سوروس، داعياً إلى إقفال الأبواب الأوروبية في وجه كل المهاجرين، يذكر الإخبار أن سوروس "يحرض على بقاء النازحين السوريين في لبنان، ليكونوا ورقة ضغط وقنبلة موقوتة".
بالنهاية، جورج سوروس عمره الآن 94 عاماً، وتقاعد في العام 2023، وسلم ابنه ألكسندر إدارة دفة مؤسساته وثروته. على قادة الحروب الدونكيشوتية تحديث معلوماتهم.
