جوزاف عون صريحاً واضحاً

منذ ٢ أيام ٢٦

يحدُث أن نتفهّم، نحن المشتغلون في الميديا، من رؤساء الدول والحكومات نقصان الصراحة الكاملة في إجاباتهم عن أسئلةٍ نتوجّه بها إليهم، وإبقاء مساحاتٍ مظلّلةٍ بشيءٍ من الغموض وعدم الحسم أحياناً. نعيد هذا إلى حساباتٍ لديهم، وهم صنّاع القرار وأصحاب مسؤولياتٍ تخصّ دولهم والمجموع العام، تجعلهم يحترسون في تعبيراتهم عن مواقفهم، وحتى في إعلانهم إجراءاتٍ سيبادرون إليها، أو يهيّئون لها... على غير هذا المنحى (أو العُرف؟)، وجدنا الرئيس اللبناني، جوزاف عون، يجيب عن أسئلة الزميليْن، أرنست خوري وريتّا الجمال، في المقابلة مع "العربي الجديد"، ونُشرت أمس، بمقادير من الوضوح، بل الدقّة المباشرة أيضاً، قليلاً جداً ما يُصادَف مثلُها في تصريحات أهل الحكم العرب، ومنهم اللبنانيون الذين كانوا، في أزمنةٍ مضت، الأكثر تخفّفاً من الاعتبارات البروتوكولية والتقليدية قبل أن ينعطفوا إلى مزاولة التحفّظات واللفّ والدوران بشأن غير ملف. ولذلك، نَرانا، نحن أهل الصحافة، محظوظين برئيسٍ عربيٍّ يزاول منسوباً محموداً من الشفافية، ونَرانا، في "العربي الجديد"، مغتبطين بأن فخامته قال لنا ما قاله، ليس فقط عن سعيه إلى أن يكون 2025 عام حصر السلاح في لبنان في يد الدولة، وإنما أيضاً عن "إمكانية" التحاق عناصر حزب الله بالجيش اللبناني، إذا أرادوا، في حال توفّرت فيهم الشروط والمؤهّلات، وخضعوا لـِ "دورات استيعاب". وقد أدلى الرئيس بهذه الصراحة، من دون أن يخدِش حزب الله بكلمةٍ، أو ينتقص من مكانته، بل قال إن الحزب "برهَن على ضبط النفس خلال هذه الفترة والوعي الكبير، وظهر على مستوى المسؤولية في عدم الردّ على الانتهاكات الإسرائيلية".

لم يكن تزيّداً قولُ كل من قالوا إن وصول جوزاف عون إلى رئاسة الجمهورية ونواف سلام إلى رئاسة الحكومة، ومعه استئناف قاضي التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، طارق البيطار، عمله، مؤشّرٌ بالغ الأهمية في انعطافة لبنان إلى مرحلة ما بعد تحرّر هذا البلد من سلطة حزب الله على القرار السياسي والعسكري في الدولة. ولذلك، ليس تزيّداً قولُ من سيقول إن كثيراً مما أفضى به الرئيس عون إلى "العربي الجديد" يضيء المجرى الذي سيمضي فيه لبنان، في عهده الجديد، أو في مرحلة محاولته النشطة باتجاه استرداد المؤسّسية التي ظلّ يفتقدها العمل العام فيه. ولهذا، ليس تفصيلاً نافلاً ما شرحه عن مهمّاتٍ يباشرها الجيش من دون أي اعتراضٍ من حزب الله، في جنوب الليطاني وشماله وحتى في البقاع، إقفالاً لأنفاقٍ ومصادرةً وإتلافاً لمخازن ذخيرة. ويبعث على الطمأنينة أن الرئيس أوضح، في هذا السياق، إيقاع الحوار مع واشنطن بشأن حزب الله وسلاحه، عندما شدّد على أن الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان لا تساعد على انتهاج الدولة سيرَها إلى حصر السلاح بيدها. والملاحظ هنا أن لغة عون، في هذا الأمر (وغيره)، لا تتوسّل المكابرة ولا تُماشي أصحاب البلاغيات الوطنية (مع التقدير للجميع)، ولا تُؤثِر رطانات الزعامات اللبنانية عن السيادة والقرار الوطني والتصدّي للعدو، وإنما تذهب إلى كل مقتضىً بمقتضاه، وتوجِز بمباشرةٍ ظاهرة، فلا تُشعرك بأن صاحبها رئيس جمهورية، يفترض فيه أن يذكّر بالذي واجه به الشعب اللبناني الاجتياحات والاعتداءات الإسرائيلية. ويتّسق هذا مع اللغة الدقيقة في البيان الذي تقدّمت به حكومة نواف سلام أمام البرلمان في فبراير/ شباط الماضي، ولم تأتِ على معادلة الجيش والمقاومة، مثلاً، وانصرفت إلى شروط التعافي التي تلزم لبنان في مضيّه نحو نهوض الدولة بأدوارها ووظائفها، عسكرياً وأمنياً وسياسياً واقتصادياً، من دون وطأة قيود التعطيل والاستقواء في مجلس النواب وخارجه... وليس من حاجةٍ هنا إلى أن يوضَح للّبيب كيف يفهم هذا التأشير هنا إلى مواسم كانت فيه الحكومات اللبنانية ملاحقةً بالتربّص والريبة والشبهة، حتى لا تنحرف عن "قواعد وطنية" يحدّدها الحزب الفلاني وحلفاؤه.

لم يكن الرئيس جوزاف عون يرسل رسائل إلى أي أحدٍ أو جهة، في مقابلته مع "العربي الجديد". وإنما كان يُشهر نقاطاً أمام الجميع ليضعوها على أحرفٍ ناقصةٍ في أي كلامٍ يقولونه، بلغة المواربة التي آثروها طويلاً، وافترضوا أنها ستبقى إلى الأبد، حتى إذا هبّت أكثر من ريحٍ في لبنان نفسه، وفي جواره وفي الإقليم، فطوت كل أبدٍ موهوم، فغادروا ما كانوا عليه. وأظنّنا، في الذي أخبرنا به الرئيس، التقطْنا نقاطَه، وأولها وجوب الصراحة والوضوح بشأن لبنانٍ آخر، ناهضٍ إن شاء الله.

قراءة المقال بالكامل