جوني منصور وإيلان بابيه.. دروسٌ معاصرة من النكبة

منذ ٢ شهور ٣٦

عندما وصل مقتلَعون فلسطيّنيون من ديارهم إثر نكبة 1948 بمئات الآلاف إلى الضفّة الغربية، احتضنتهم المجتمعات الفلسطينية هناك واعتنت بتنظيم تعامُلهم مع السلطات الخدمية والرسمية لتخفيف المأساة عنهم، حتّى لا يعيشوا فوضى حياتية. وقد تولّت بلدية نابلس في شمال الضفة و"اللجنة العامّة للعناية بشؤون النازحين العرب في فلسطين" و"اللجنة القومية العربية في نابلس" بجانب كبير من مسؤولية رعاية لاجئي حيفا ويافا واللدّ والرملة وقراهما، ظنّاً منها أنّ مسألة النزوح مؤقّتة.

لكن، مع توالي السنين من دون أن تتيسّر هذه العودة، رغم صدور القرار 194 عن الأمم المتحدة القاضي بالسماح بعودة اللاجئين، أو تعويض الحكومات أو السلطات المسؤولة من يقرّرون عدم العودة عن كلّ خسارة لحقت بهم، رضخت المنظّمة الدولية وقبلت بإنشاء "وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين" (أونروا). وعندما باشرت عملها عام 1950، توقّفت مساعداتُ البلدية واللجنتين، مع أنّ عائلات كثيرة كانت محتاجة إلى استمرارها.

كيف يمكن أن يقف مجتمع محلّي غارق في أزمة سياسية شملت عموم فلسطين، مسانداً جزءاً من مجتمعه تعرّض لأشكال مختلفة من الطرد والترحيل والاقتلاع من أرضه وبيوته وممتلكاته؟ هذا السؤال يطرحه المؤرّخان جوني منصور وإيلان بابيه في كتابهما "التضامن في أوقات الأزمات: دروس مُعاصرة من النكبة"، الصادر حديثاً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، والذي يتناولان فيه قضية "اللجوء واللاجئين" والمجتمعات المضيفة في تاريخ الشعب الفلسطيني الحديث، وتحديداً بين عام النكبة (1948) وعام 1950، مع التركيز على نابلس.

يتألف الكتاب من ثلاثة أقسام‎؛ يشتمل الأوّل والثاني منها على تسعة فصول هي فصول الدراسة، بينما يُخصَّص القسم الثالث لعرض وثائق ذات صلة ‏مباشرة بموضوع البحث.

يتناول الفصل الأوّل أحداث سقوط حيفا ويافا واللد والرملة وغيرها، وتدفُّق نازحيها إلى الضفّة الغربية ونابلس وجنين وطولكرم، وغيرها. ويعرض الخلاف بين القيادات العربية، السياسية والعسكرية، حول كيفية التعامل مع النزوح وإيجاد حلول له بعد الانهيار العسكري أمام الاحتلال الإسرائيلي. أمّا الفصل الثالث، فيستعرض حلول السياسيّين الفلسطينيّين والعرب والأجانب لمعضلة استيعاب النازحين في أماكن وجودهم، ومواقف النازحين من هذا التوجّه. ويعرض الرابع دور "اللجنة القومية" التي شكّلتها "الهيئة العربية العليا" بدعم من "جامعة الدول العربية" في المدن الفلسطينية ونابلس لرعاية النازحين.

ويتمحور الفصلان الخامس والسادس حول تشكيل "اللجنة العامّة للعناية بشؤون النازحين العرب في فلسطين"، من خلال أوراق اللجنة المتوافرة في مكتبة نابلس العامّة، وكذلك تشكيل اللجان المتخصّصة الفرعية في القرى والمدن الأُخرى لمواجهة تدفّق النازحين، وتفاعُل المجتمع الفلسطيني مع النازحين. ويتحدّث الفصل السابع عن الموقف الدولي إزاء قضية اللاجئين والتعريفات التوضيحية لمفاهيم متعلّقة بالموضوع نفسه، بينما يُلقي الفصل الثامن نظرةً تاريخية واقعية إلى كيفية تعامل مدينة نابلس مع أزمة النزوح التي حلّت بها عام 1948.

ويتناول الفصل التاسع والأخير تعامُل بلدة ألمانية شبيهة بنابلس مع الأزمة قبل سبعة عقود، باعتبار نموذج نابلس عام 1948 مميَّزاً من حيث تفاعل الأطراف المتداخلة في الأزمة، ويُحلّل طروحاتٍ في المساهمة العلمية والفكرية والتاريخية في تجسير الهوّة في موضوع اللجوء. وبناءً على استمرار الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، ومن ثمّ، النزوح، يبقى نموذج نابلس مثالياً لفهم حالات نزوح ولجوء وهجرة في مواقع أُخرى من العالم. ويضمّ الكتاب في آخره مئات من الوثائق والمستندات الخاصّة بـ"اللجنة القومية العربية" و"اللجنة العامّة للعناية بشؤون النازحين العرب في نابلس"، والخاصّة بفترة 1948 - 1950.

يوضّح المؤلّفان، في مقدّمة الكتاب، أنّ الفكرة من وراء تأليفه تعود إلى هدفين: الأوّل كتابة فصل من التاريخ الفلسطيني في أبرز قضاياه وهو "اللجوء واللاجئون" من منظار الاعتماد على وثائق فلسطينية وعربية في الأساس، والثاني الكشف عن أهمّية المجتمع المحلّي ودوره في معالجة أزمات تقع عليه بفعل عوامل خارجة عنه، أو ليست في حدود مسؤولياته المباشرة. بمعنى آخر، إبراز دور هذا المجتمع في استقبال حالات نزوح كثيفة وغير مسبوقة تعرّّض لها جزء من شعبه، واستيعابها والعناية بها. وهذا موضوع تاريخي وأخلاقي واجتماعي وسياسي في الوقت نفسه.

قراءة المقال بالكامل