حروب خفية على الكتاب.. تحذيرات من انحسار الثقافة البشرية

منذ ٢ ساعات ١٣

منذ فترة ليست ببعيدة، تعرّضت مكتبة جامعة الموصل، التي تأسست عام 1967، لواحدة من أبشع جرائم التخريب الثقافي، حين أُحرق أكثر من ألفي كتاب، إلى جانب آلاف الأطروحات الجامعية والمخطوطات، إثر إحراق المكتبة المركزية ومعظم المكتبات الفرعية في الجامعة. مأساة لم تكن الأولى في سجل البشرية، فتاريخ البشرية مليء بقصص وأحداث ترافقت مع حرق الكتب والمكتبات. لكن من أضرموا النيران في تلك الصفحات نسوا تحذير الشاعر الألماني هاينريش هاينه: "هناك حيث تُحرق الكتب، سيُحرق البشر أيضاً".

غير أن حرق الكتب لم يعد يقتصر على اللهب. ففي باريس ومدن فرنسية أخرى، اعتاد بعض القرّاء أن يتركوا كتاباً على مقعد حديقة ما. وكان هذا الكتاب يختفي بعد لحظات من تركه. وذات يوم، ترك أحدهم كتاباً انتهى للتو من قراءته على مقعد في حديقة المدينة التي يعيش فيها. ويوم عاد بعد مضي أسبوع، وجد كتابه في الموضع الذي تركه فيه. فاسترجعه بخيبة أمل مستخلصاً أنَّ الكتاب لم يعد يثير اهتمام الناس الذين باتوا لا يقرأون إلا قليلاً.
  
بهذه الصور المتناقضة، يبدو أن الكتب تُحرق اليوم بوسائل أكثر خفاءً، لا تقل فتكاً عن النيران: الإهمال، واللامبالاة، وتراجع عدد القرّاء. ولعل هذا ما قصده المفكر والناقد الأدبي الأميركي جورج شتاينر، حين قال في افتتاح معرض تورينو للكتاب: "نحن بحاجة إلى الكتب أكثر من أي وقت مضى... والكتب بدورها تحتاج إلينا أيضاً".

تُحرق الكتب بوسائل متعددة: الإهمال واللامبالاة وتراجع القراءة 

ومن ينسى "فهرنهايت 451"، الرواية التي تحوّلت إلى أيقونة في أدب الديستوبيا؟ في هذا العمل، يصوّر راي برادبري عالماً شمولياً يقضي على الكتب بوصفها خطراً على الأيديولوجيا الرسمية، ويستعيض عنها بالبث التلفزيوني الموجّه. رجل الإطفاء مونتياج، المكلّف بإحراق الكتب، يكتشف شغفه بالقراءة بفضل جارته كلاريس، ويبدأ رحلة تمرد ضد السلطة، تنتهي به إلى الغابات حيث ينضم إلى مقاومين يحفظون الكتب في ذاكرتهم خوفاً من اندثارها.

وكأن الرواية باتت واقعاً. ففي زمن تتراجع فيه مكانة الكتاب، تكتسب كلمات رينيه ديكارت بعداً جديداً، حيث قال: "قراءة الكتب الجيدة تشبه محادثة أرقى عقول الماضي"، بينما تقترب أجيال اليوم من فقدان هذا الامتياز شيئاً فشيئاً.

لم تعد أولوية

يبدو أن القراءة لم تعد من أولويات الشبان والشابات من الجيل الجديد، ليس في العالم العربي فحسب بل أيضاً حول العالم. حيث توقفت عن كونها الوسيلة المفضلة لاكتساب الثقافة أو توسيع آفاق الفكر والمعرفة. ففي عصر الإنترنت وتطبيقاته، من وسائل التواصل الاجتماعي إلى محركات البحث، تغيّرت اهتمامات شباب القرن الحادي والعشرين، حتى أولئك الذين ما زالوا على مقاعد الجامعات.

هكذا أصبح معظم طلاب جيل الشاشة مهتمين باختصاصات البرمجيات الإلكترونية وعلوم الحاسوب والذكاء الاصطناعي، متحولين إلى تقنيّين منشغلين بهواتفهم المحمولة وبالكم الهائل من الصور التي تتبدّل أمام أعينهم، بعيدين كلّ البعد عن الآداب والعلوم الإنسانية التي باتت عند بعضهم من لزوميات ما لا يلزم. وبذلك، لم يعد لديهم الوقت الكافي للقراءة التي تراجع مستواها، مستصعبين الغوص فيها، متأففين من عدد الصفحات، مخالفين بذلك قول الروائي الفرنسي ستندال في إحدى رسائله لأخته بولين: "ما زلت أُهنئ نفسي على الصدفة التي جعلتنا نحب القراءة. إنها مخزون دائم من السعادة لا يستطيع البشر أن يسلبوه منا". أو قول فيكتور هوغو الذي أكّد "أن النور في الكتاب"، داعياً الشباب إلى فتح الكتاب على مصراعيه، "ليُشع ويعمل". فهو بحسبه "سبيل الثقافة والبناء والإثارة والسكينة". لذا وجب "وضع الكتب في كل مكان".

إغراق الأسواق بآلاف الكتب لا يعكس بالضرورة ازدهار القراءة

فالكتب، شأنها شأن أدوات الثقافة الكبرى، ليست مجرد رموز، بل أدوات زمن ومعنى. إنها تحيي الماضي، تنقل إلينا الحاضر بكل تعقيداته، وتفتح أبواب المستقبل. كما أنها تتيح التواصل مع العالم والانفتاح على تنوع الحضارات، في مقابل الأيديولوجيات المغلقة التي تسعى لفرض رؤية واحدة وتمنع الإنسان من التفكير الحر والانفتاح على الآخر المختلف.

إن تعلم القراءة هو تعلم التفكير والقدرة على النقد وعلى التواصل مع النفس ومع الآخرين من خلال الكلمات، التي تقول جاكلين دو روميي إنها "حصننا ضد البهيمية". فعندما لا يستطيع الإنسان التعبير بدقة عن نفسه، يتعامل حصراً مع التقريبات الغامضة، هناك فقط يكون بحسبها "العنف الأعمى". وهذا ما بدأت تباشيره تلوح في العديد من المجتمعات حول العالم.  
إن ملامح هذا الانحدار الثقافي بدأت بالظهور فعلاً في أكثر من مجتمع. وفي ظل هذه التغيرات، يبدو أن القراءة، التي كانت يوماً أحد أركان بناء الإنسان الحر، تواجه الآن خطر التهميش، في عالم يزداد ازدحاماً وضجيجاً... ويبتعد شيئاً فشيئاً عن الكلمة.


بوادر انقراض

لكنَّ تراجع القراءة والاهتمام بالكتاب يترافق في مفارقة صارخة مع نشر آلاف الكتب ومنح عشرات الجوائز الأدبية، والحديث عن "الكتب الأكثر مبيعاً". غير أن ذلك لا يعني أن القراءة تعيش عصرها الذهبي. لا بل إن محبي القراءة والأدب أصبحوا اليوم مهددين بالانقراض. ففي باريس عاصمة الثقافة، وفي فترة لا تتجاوز ثلاث سنوات، أغلقت أكثر من 83 مكتبة أبوابها في مشهد يدل على تغيّر حضاريّ في طريقتنا في التعامل مع الأدب والفكر والكتاب، أكان ورقياً أم إلكترونياً.

وتكفي الإشارة إلى البيان الذي وجهته منذ سنة تقريباً مجموعة من الكتّاب والفلاسفة والمثقفين والناشرين الفرنسيين إلى وزير التربية الوطنية في البلاد، تدعوه فيه إلى القيام بعملية إصلاح شاملة لمناهج التعليم الابتدائية والتكميلية والثانوية المتبعة في المدارس في ما يتعلق بمستوى مهارات الكتابة والقراءة والتواصل اللغوي التي تتراجع باطراد منذ دخول الهواتف المحمولة وملحقاتها من أجهزة لوحية وقارئات إلكترونية وشاشات وكاميرات رقمية في فضاء الحياة اليومية.

في كتابه الصادر عام 2023 بعنوان "اجعلوهم يقرأون: لوضع حدّ للمعتوه الرقمي"، أطلق المتخصص في علم الأعصاب ومدير البرامج البحثية في المعهد الوطني الفرنسي للصحة والأبحاث الطبية ميشال ديمورجه صرخة علمية محذّرة. فقد ضمّن كتابه سلسلة من الإحصاءات الصادمة التي بيّنت تراجعاً واضحاً في التفاعل المعرفي وتنمية المهارات الذهنية لدى الشباب، نتيجة الانغماس المفرط في الوسائط الرقمية، مطالباً بضرورة العودة إلى قراءة الكتب الكلاسيكية بوصفها ممارسة ثقافية قادرة وحدها على إنقاذ الأجيال من ضياع الذوق والفكر تحت وطأة التكنولوجيا المتسارعة.

ولم يكن تقرير منظمة يونسكو الصادر في العام نفسه أقلّ تحذيراً، إذ أشار بوضوح إلى أن معدلات القراءة في العالم العربي، خصوصاً بين التلاميذ والطلاب، منخفضة جداً مقارنةً بأقرانهم في أوروبا، على الرغم من تراجع القراءة في القارة الأوروبية نفسها لصالح الوسائط البصرية والتطبيقات الإلكترونية.

ومع هذا التراجع، ما زال هناك بعدٌ حميمي لا يمكن تعويضه، يرتبط بملامسة صفحات الكتاب الورقي، كما عبّر الأديب الفرنسي أناتول فرانس حين قال: "لا يكون الإنسان سعيداً بالكتب إلا إذا أحب ملمسها ورائحتها". لكنّ القراءة الرقمية، رغم ازدهارها الظاهري، لم تُحدث القفزة التي كان يُتوقع أن تُنقذ فعل القراءة نفسه. فوفق دراسة حديثة من أحد الباحثين في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، فإن معدل القراءة الرقمية لم يرتفع سوى ثلاث نقاط خلال السنوات الثلاث الأخيرة، منتقلاً من 8% إلى 11%، رغم الانفجار في النشر الرقمي وانتشار الأجهزة اللوحية والهواتف الذكية.

في النهاية، سواء أقرأنا من الورق أم من شاشة، تبقى المشكلة الأساسية هي ندرة القرّاء الحقيقيين. فالمسألة ليست في الوسيط، بل في فعل القراءة نفسه، الذي وصفه مونتاني بأنه "رفيق الرحلة الإنسانية". ومن دون هذا الرفيق، لا تكتمل لا المعرفة ولا الحياة.


وضع مقلق

أظهرت دراسة أجرتها مؤسسة الإحصاء الفرنسية (Insee)، أن واحداً من كل خمسة فرنسيين يعيش في ما وصف بـ"الوضع المقلق" من حيث مهارات القراءة والكتابة، في إشارة إلى تراجع خطير في الكفاءات الأساسية التي تشكل عماد الثقافة والتواصل الإنساني. ولا يختلف الحال كثيراً في دول أخرى، حيث باتت الأمية المقنّعة تزحف ببطء في المجتمعات الحديثة، حتى بين خريجي الجامعات.

هذه الأرقام الصادمة تتزامن مع تناقض لافت: في كل موسم أدبي جديد، تغرق الأسواق بآلاف الكتب الورقية والإلكترونية، من روايات إلى دراسات وسير، لكن ذلك لا يعكس بالضرورة ازدهار القراءة. فمعظم هذه الإصدارات تمرّ مرور الكرام، وبعضها لا يضيف شيئاً إلى الفكر أو الأدب، بل يهبط إلى مستويات سطحية لا تليق حتى بالقراءة العابرة. في ظل طغيان المنفعة التجارية، تحوّلت دور النشر إلى آلات طباعة ضخمة لا تهتم في كثير من الأحيان بجودة المحتوى، بل تسعى لاسترداد تكاليف الطباعة عبر حفلات التوقيع والتسويق العاطفي.

أما الكتب التي تلقى رواجاً، فكثيراً ما تكون خفيفة المحتوى، تدور حول الأبراج ووصفات المطبخ وأسرار الجمال، أو مجرد تكرار ممل للتراث، خصوصاً في العالم العربي، حيث يجرى تدوير الموروث أكثر من تجديده أو مساءلته. وتحوّلت معارض الكتب من احتفال بالمعرفة إلى أحداث اجتماعية، يحضرها الناس أكثر للفرجة وتبادل المجاملات، لا لاقتناء الأفكار. وحتى الكتب التي تُشترى، كثير منها لا يُقرأ أو يكتفى بتصفحه.

في ظل هذا التراجع، تبرز المنافسة غير المتكافئة بين الكتاب ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث تهيمن السطوة البصرية والرسائل السريعة على الاهتمام الجماهيري. ومع ذلك، تتصدر لوائح المبيعات كتب لمؤلفين يفتقرون إلى العمق أو الأسلوب، ولكنهم يملكون قدرة تسويقية عالية وشبكات دعم شعبية، حولت حفلات التوقيع من منصات فكرية إلى مناسبات استعراضية. وما يثير القلق أكثر هو تنامي الخطاب البيئي الذي يُشيطن استخدام الورق، ما قد يُسرّع في انحسار الكتاب الورقي، فيُنظر إليه كما يُنظر إلى المنتجات المسرطنة أو الملوثة للبيئة. قد لا يكون الورق هو العدو، بل غياب القارئ الحقيقي هو الخطر الأكبر.

في النهاية، السؤال الذي يفرض نفسه: هل ما زال هناك قرّاء حقيقيون، يقتربون من الكلمة بوصفها ماءً صافياً للحياة لا مجرّد حبر على ورق؟ 


* أكاديمية وكاتبة من لبنان

قراءة المقال بالكامل