أعلنت منظمة PEN America الأسبوع الماضي عن حجبها جائزة جان شتاين للسنة الثانية على التوالي، وهي جائزة تمنح عادة لعمل أدبي احتفاءً "بأصالته وتأثيره وفتحه آفاقاً جديدة لإعادة تصور الشكل الأدبي" بحسب موقع المنظمة. وقد حُجبت الجائزة، كما في العام الماضي، لانسحاب معظم المرشحين والمتأهلين للتصفيات النهائية، اعتراضاً على رفض المنظمة الاعتراف بالإبادة الجماعية التي تتعرض لها غزّة، واعتمادها لغة فضفاضة مراوغة كلّما طولبت بأخذ موقف مناهض للتوحش الصهيوني.
وحفظاً لماء الوجه، قامت المنظمة بالتبرّع بقيمة الجائزة البالغة خمسة وسبعين ألف دولار لصالح منظمتين، الأولى هي "صندوق إغاثة أطفال فلسطين" والثانية "فلسطين القانونية"، وهي منظمة قانونية تتطوع لدعم حركة التضامن مع فلسطين من خلال التصدي لمحاولات التهديد والمضايقة التي يتعرض لها الناشطون في سبيل القضية الفلسطينية في الولايات المتحدة.
يأتي هذا التحرك في سياق مناخ ثقافي أميركي وُصف بأنه يفتقر إلى الحياء والحدّ الأدنى من القيم الإنسانية، بعد أن كُشف عن وجهه الحقيقي خلال العدوان على غزة؛ وجه اتّسم بالعنصرية والتواطؤ، في مجزرة تجاوزت حدود ما كان يُظن ممكناً، سواء في الواقع أو حتى في الخيال.
مناخ ثقافي أميركي يفتقر إلى الحدّ الأدنى من القيم الإنسانية
هذه الجائزة ليست إلا مثالاً واحداً. فجوائز الإبادة كثيرة، منها ما حُجب ومنها ما مُنح، وكلها في خدمة القتلة المستعمرين. هي شكل من أشكال العنف وامتداد لمشروع محو الشعب الفلسطيني والسيطرة عليه وعلى ما سيتبقى منه حياً وميتاً، في الواقع أو في الذاكرة، على الأرض أو في القصيدة. وكثيراً ما يتجلّى هذا العنف في شكل احتفاء وتعاطف ولهاث وراء الترجمات والمنشورات والإضاءات على الأدب الفلسطيني في ضوء المجزرة. وكأن الإنسان الفلسطيني لم يكن موجوداً قبل إبادته. وها هو يُكتشف الآن قتيلاً أو جريحاً أو ناجياً. وفجأة بات لكل قول فلسطيني قيمة كشهادة أو دليل أو مادة خام كتلك التي يقع عليها المنقّب عن الآثار بين الركام. فيكتشفها ويرتبها ويدرسها ويضفي عليها قيمة ثقافية لا يستطيع تقديرها أو تفعيلها إلا هو، الرجل الأبيض المتحضّر.
لقد ضحّى العالم بالفلسطينيين بتواطؤه أو بصمته، وسرعان ما سيبدأ في إعادة تأهيل نفسه. سيشيدُ النُصُب ويتلو ترانيم الاعترافات بالأرض وأهلها الأصليين الذين زالوا كما لو بفعل الطبيعة، ويخلق أسطورة الإنسان الفلسطيني، ثم يستهلكها ويكتبها ويعيد كتابتها كيفما شاء قبل أن يودعها متاحفه وكتب تاريخه.
مذهلٌ كيف ينجح المستعمِر القاتل في التملّص من الاعتراف بنا كأنداد وكبشر! نحن رعاياه وضحاياه، ومع ذلك يُبدع في "تشييئنا" وتحجيمنا، ويمنح نفسه الحق في صناعتنا بالصورة التي تلائمه. لا يحتفي إلا بمن يسهل تسطيحهم، أولئك المستعدّين لتأدية أدوارهم في الهامش الضيّق الذي يتكرّم به عليهم. فإمّا أن نُوجَد بشروطه: صامتين، مهادنين، شاكرين لإمبراطوريته تسامحَها الزائف ومروءتها الكاذبة، أو أن نُمحى من الوجود تماماً.
هذا هو حالنا نحن "الآخرين" في قلب الإمبراطورية. نُستحضر إلى مشهد إبادتنا، لكننا نظل في الهامش، نؤدي أدواراً محددة أُسنِدت إلينا سلفاً. فنحن لا نعرف إلا أنفسنا، وحتى هذه المعرفة بدائية، تحتاج إلى عقول "أرقى" — ليست عقولنا — لتحوِّلها إلى فكر أو فن أو فلسفة. لا قدرة لنا إلا على الموت، والشهادة على موتنا. نحن القتلى، ونحن المخبرون عن مأساتنا في آنٍ معاً. وهذا يُعفي الإمبراطورية من عبء الاعتراف بعنفها أو تحمّل تبعاته. بل يمنحها فسحة للتباهي بإنسانيتها، وكرمها، وسماحتها، حين تتيح لنا فرصة تمثيل نكبتنا على مسرح الهويات الصغيرة الذي يقيمه المستعمر، لتؤكد مجدداً على تفوّقه. فهو باني الحضارات — مهما كلفه ذلك من عناء التدمير والقتل — ونحن المتوحشون.
الأدب الفلسطيني، كما الأدب العربي، بحاجة إلى قراءة نقدية
أما الأدب، خاصة الشعر، ذاك الذي يتطلب تلقياً نقدياً وفكرياً، فمؤجل في لحظة المجزرة. إذ تُختَزَل كل القصيدة وتصير صرخة مظلوم، ويصبح كل نص بمعزل عن قيمته الفنية دليلاً على النجاة، لا أكثر. لا بد من الانتباه إليه والتوقف عنده، ولكن لا مجال لقراءته حقاً أو التفاعل معه جمالياً ونقدياً في لحظة المجزرة.
لذا فإن الأدب الفلسطيني، كما الأدب العربي بشكل عام، ما زال مديناً لنا بقراءة نقدية. الشعر كصرخة يفرض نفسه علينا في أوقات الرعب كأيام الإبادة الجماعية التي نشهدها في غزّة. لكن عمل الشعر الحق، في المدى الطويل، أكثر من هذا بكثير. لا بدّ أن تكون القصيدة عالماً متكاملاً، صرحاً لغوياً وفكرياً عصيّاً على الدهر، لا مجرد صرخة في لحظة، مهما كانت تلك صرخة مدوية ومؤثرة. والوفاء لفلسطين لا بد أن يتجلى في وفاء فني ونقدي، وفي التزام، أو وعد على الأقل، بقراءة شعرها قراءة لا تتهاون ولا تستخف بالشعر كندّ للتاريخ وصنو للفلسفة وفضاء للوجود. فإن كنّا سننجو، لا بد أن نفكر في نجاة شعرنا كذلك، وإلا نتركه رهينة. لا بد أن نفكر في إنقاذه من مسارح المستعمر ومهرجاناته وجوائزه، لأنّ الشعر، هو كذلك، يُقْتلُ في المجازر.
يذكر أن PEN America هي منظمة أميركية غير ربحية تُعنى بالدفاع عن حرية التعبير وحقوق الكُتّاب حول العالم. تأسست عام 1922، وهي جزء من شبكة PEN العالمية التي تشمل أكثر من 100 مركز في أنحاء العالم. لكن يبدو أن شهور الإبادة الثمانية عشرة في غزّة كشفت للعالم أن مهمة الدفاع عن الحرية والحقوق لا تشمل الحق والحرية الفلسطينيَّين، كما كشفت عن أشكال مروّعة من النفاق والمعايير المزدوجة في المشهد الثقافي العالمي، لا سيّما في الولايات المتحدة.
* شاعرة وأكاديمية لبنانية مقيمة في الولايات المتحدة
