حين يكون الحقّ طائفياً

منذ ١٥ ساعات ١٨

أن تكون ضدّ الظلم وضدّ سفك الدماء وضدّ الانتهاكات هذا موقف إنساني وأخلاقي، وواحدٌ من بديهياتٍ لا يجوز النقاش فيها أبداً. كان هذا موقفي منذ أوّل لحظة في الثورة السورية التي بدأت عام 2011، ويعتبر بعضُهم أنها انتهت مع فرار بشّار الأسد، وبدأ الآن بناء الدولة السورية. لم يكن ما يحدث وقتها يحتمل عندي أيّ شكّ في ضرورة الوقوف مع الثورة ومساندتها بكلّ ما يمكنني. ما كان يفعله النظام وقتها جريمة كاملة لا مواربة فيها، ولا تحتمل الشكّ. ولم أتردّد لحظةً في تصديق كل ما كنت أسمعه من الضحايا أينما كانوا، فقد رأيت بأمّ عيني نوعيةَ الجرائم التي كان نظام الأسد لا يتورّع عن ارتكابها. وفي الوقت نفسه، لم أصدّق حرفاً من أنواع التبريرات كلّها، التي كان النظام يتذرّع بها في حربه ضدّ السوريين، وتبنّاها أيضاً كثيرون من أقاربي وعائلتي.

لم أكن أملك لمؤازرة الضحايا سوى كلمتي. لهذا لم أتوقّف لحظةً عن فضح جرائم الأسد، وفضح ممارساته التي ترسّخ الطائفية في سورية وتعزّزها، وتؤسّس لخراب مقبل. لم أوفّر وسيلةً واحدةً لهذا. كتابة مقالات، كتابة منشورات في صفحتي في "فيسبوك"، ظهور إعلامي ومقابلات في الفضائيات العربية والعالمية. فعلت هذا وأنا في الداخل السوري قبل أن يطلب مني رسمياً مغادرة سورية في نهاية 2011، سورية التي لم أعد إليها، تاركةً خلفي عائلةً وأصدقاءَ ومشاريعَ وأحلاماً، بقيت وقتاً طويلاً مؤمنةً أنني سوف أعود إليها. لهذا، ربّما لم أسعَ للحصول على جنسية دولة أخرى، كنتُ سوريةً وقرّرت أن أبقى سوريةً إلى آخر لحظة في حياتي، حتى لو لم تتح لي فرصة العودة.

مقابلات وكلام جميل ومطمئن، يبشّر بسورية عادلةٍ رغم الصعوبات كلّها (قدّمتها السلطة الجديدة بعد التحرير)، استبشر بها خيراً السوريون كلّهم، بمن فيهم الخائفون من التغيير ممن زرع نظام الأسد في وجدانهم الجمعي أنهم سيتعرّضون للذبح في حال رحيله. كان كلام السلطة الجديدة عن سورية التي ستكون لجميع أبنائها كافياً لإزالة المخاوف، أو على الأقلّ تحييدها واستعادة الثقة بالمواطنة بين الخائفين والوطن.

ولكن يبدو أن تركة الأسد كانت أثقل بكثير ممّا توقّعنا. هكذا، فجأة صحا السوريون، بعد ثلاثة أشهر من التحرير، على مجازر تُرتكب في الساحل السوري، لا صفة لها سوى المجازر الطائفية، بعد إعلان نفير جهاديّ في الجوامع لمساندة الفصائل التي تقاتل الفلول في الساحل، لنكتشف صباح اليوم التالي أن مجازر جماعية ارتُكبت بحقّ مدنيين علويين في مدينتي بانياس وجبلة وريفهما، مجازر لا شبيه لها سوى مجازر الأسد، بالأسلوب نفسه وبالطائفية نفسها، وبالثقة نفسها في تصويرها ونشرها في وسائل التواصل، تفاخراً بهذا الانتصار العظيم. وكعادة منظومة الأسد، حُمّل الفلول والعناصر غير المنضبطة مسؤولية المجازر. حرفياً، قتلٌ على الهويّة، نهب الممتلكات وسرقتها بالكامل، حرق قرى بأكملها، إذلالٌ متطابقٌ مع طريقة النظام السابق، عشرات الآلاف مشرّدون في البراري والجبال محاصرون ممنوعون من العودة وممنوعون من الطعام والشراب والدواء حتى للأطفال. كانت المجازر تنتقل من قرية إلى أخرى، وكُثرٌ من مثقّفي الثورة السورية، ممن كانوا رفاق درب ذات يوم، يمرّون عليها مرور الكرام أو يتّهمون الفلول بها أو يتهموننا بالطائفية لأننا نكتب عنها.

لا وصف للخذلان الذي شعرتُ به من موقف بعض أصدقاء من المثقّفين السوريين الصامتين عن هذه المجازر التي تشبه الفضيحة. كنتُ أظن أن تنديدهم بها وتوجيه الاتهام إلى المجرم الحقيقي بديهية تشبه بديهية الوقوف ضدّ نظام الأسد وجرائمه. ولكن يبدو أن ما حدث خلال السنوات الماضية عمّق حالة الشرخ لدى مثقّفين سوريين كثيرين في فهمهم للحقّ، وفي مفهوم الهُويَّة أولاً، لم تختلف هُويَّتهم عن هُويَّة الغوغاء المنقادين خلف نفير جهادي، وهم يصيحون "بالذبح جيناكم"، سوى بقدرتهم على خلق أعذار لمواقفهم المخزية، التي يؤكّدون من خلالها أن ثورة أخرى في سورية يجب أن تحدث، بعد أن طوت الهُويَّة الطائفية صفحة الثورة الأولى إلى الأبد.

قراءة المقال بالكامل