أثار لقاء رمضاني، لداعية سلفي معروف بشعبويّته، في مدينة إمزورن المغربية (شمال) تعليقات وجدالات كثيرة على مواقع التواصل الاجتماعي في المغرب، ليس بسبب ما طرحه من أفكار أو ناقشه من مواضيع، إنما بسبب الحضور الكثيف لجمهور تلك الأمسية الرمضانية الذي غصّت به قاعة رياضية تسع مئات المتفرجين. لم يأت للقاء بجديد، بل بالعكس، سكت صاحبه عن المواضيع الحارقة التي تشغل بال المواطن المغربي من غلاء أسعار وارتفاع معدل البطالة، واستشراء الفساد داخل دواليب الدولة العليا، والتقييد الممنهج والمستمرّ للحرّيات العامة، والمحاكمات التي لا تنتهي لنشطاء ومدوّنين كل ذنبهم أنهم ناهضوا التطبيع مع الكيان الصهيوني وطالبوا بوقفه. وبما أن المناسبة شرط، كما قيل، وكما يردد الفقهاء عندما يريدون تبرير نزول أقوالهم، جرى اللقاء في منطقة الريف في المغرب، وهي المنطقة التي شهدت عام 2016 حراكاً شعبياً كبيراً استمرّ زهاء السنة، قبل أن تتدخل السلطات المغربية وتقمعه وتعتقل نشطاءه ورموزه الذين لا زالوا في السجون، بعد أن حُكم عليهم، ظلماً، بأحكام ثقيلة ما بين عشر وعشرين سنة. وبدلاً من أن يتحدّث الشيخ السلفي عن محنة أولئك الشباب الذين يقضون زهرة عمرهم وراء القضبان، ويطلب من الدولة إطلاق سراحهم، سار يحذّر مستمعيه من مغبّة زعزعة استقرار البلد، وهي التهم الجاهزة التي حوكم بها، ظلماً، عشراتٌ من شباب تلك المنطقة المغضوب عليها من سلطات البلد.
حالة هذا الداعية السلفي، وهذه الواقعة، ليسا سوى نموذجٍ مصغّرٍ يختزل حالة عامة أصبحت تلفت الانتباه، وتطرح أسئلةً كثيرة بشأن تنامي الخطاب السلفي في المغرب، وغضّ الدولة الطرف عن تنامي صفوف أتباعه، أو ربما تشجيعها له وفتح الفضاءات العامة أمام شيوخه وأقطابه الذين غالباً ما يتبنّون خطابا يساير الخطاب الرسمي، يعضِّده ويبرّره ويدافع عنه في تماهٍ كامل مع باقي أجهزة الدعاية الرسمية للدولة. ليس مهمّاً ما يحمله هذا الخطاب من أفكار إن وجدت أصلاً، لأنه على غرار الخطابات الشعبوية، غايته دغدغة العواطف، ومخاطبة الغرائز، يتحدّث عن القشور ولا ينفذ إلى الجوهر، وهو أبعد ما يكون عن الصدع بالحق والدفاع عنه، من دون أن يعني هذا دعوة أصحابه إلى الإلقاء بأنفسهم في التهلكة، لأن السكوت، في هذه الحالة، يكون مفهوماً ومبرّراً. أما تخدير الناس، خصوصاً الشباب منهم، بخطابات سجالية غرضها ملء دنيا الناس بالتفاهات، وشغل عقولهم بخزعبلات أكل الدهر عليها وشرب، فتلك من المهام التي توفر لها الأنظمة السلطوية ميزانياتٍ وأجهزة قائمة بذاتها لتنويم الرأي العام وشغله عن الانشغال بالسياسة ورهاناتها.
يتغذّى الخطاب السلفي في المغرب على محاربة العلمانية والليبرالية والحداثة والتصوّف والإسلام السياسي. لا ينتقد السلطة، بل يحابيها ويتزلّف إليها، ولا يتردّد في تكفير معارضيه ومنتقديه، وتأليب أتباعه من الدهماء ضدهم، وقد ساعدت في تمدّده وانتشاره عدة عوامل، منها على سبيل المثال أربعة عوامل أساسية، كانت حاسمة وأساسية في ما وصل إليه هذا الخطاب من تمدّدٍ بات يشكل تهديداً حقيقياً على مستقبل الدولة والمجتمع في المغرب.
نجح الخطاب السلفي في استثمار وسائل التواصل الاجتماعي الرقمية الحديثة واستعمال منصّاتها لحشد متابعيه ونشر إيديولوجيته، من خلال طرح أفكار معادية للحداثة والتقدّم
أول هذه العوامل المناهج التعليمية التي تم حشوها بفكر سلفي متخلف يتم تعبئة عقول الناشئة به. وفي المقابل، تم القضاء على مادة الفلسفة وتعويضها بما بمادة الفكر الإسلامي، وأغلبها تعتمد على مراجع محافظة تناهض كل منهج نقدي وتروّج فكراً يحثّ على الخنوع والخضوع والاستسلام للقضاء والقدر.
ثانياً، ترويج الفكر المحافظ وآخر خرافي، رديف الفكر السلفي، عبر إعلام رسمي مدعوم من أموال دافعي الضرائب أو من خلال إعلام شبه رسمي، خاصة الإذاعات الخاصة المملوكة لمقرّبين من السلطة التي تفتح أمواجها لشيوخ محافظين وسلفيين لترويج فكرهم بكل تناقضاته وتخلفه وخرافاته.
ثالثاً، تسامح السلطة مع السلفيين، فبعد سنواتٍ من تشجيع "الإسلام الصوفي" لمواجهة "الإسلام الحركي"، جاءت رياح الربيع العربي لتكشف عن فشل هذه الاستراتيجية، فلجأت السلطة إلى الاعتماد على السلفيين وشيوخهم لمواجهة خطاب الإسلام السياسي. وهكذا تم إطلاق سراح كثيرين من شيوخهم الذين كانوا يقضون عقوبات سجنية على خلفية إدانتهم في قضايا تتعلق بالإرهاب أو التحريض عليه، وتوظيفهم في صراع السلطة مع الإسلام السياسي، واستعمالهم ضد كل صوت معارض أو منتقد لها.
انتعش الخطاب السلفي في المغرب في السنوات العشر الأخيرة، مستفيداً من تسامح السلطة معه وتحالفه معها
رابعاً، نجح الخطاب السلفي في استثمار وسائل التواصل الاجتماعي الرقمية الحديثة واستعمال منصّاتها لحشد متابعيه ونشر إيديولوجيته، من خلال طرح أفكار معادية للحداثة والتقدّم، وإثارة نقاشات في مواضيع هامشية وأحيانا صدامية، وإثارة سجالات تافهة مع فنانين وفنانات، أو من خلال شيطنة بعض العلمانيين واليساريين، والتحريض ضدهم وضد كل من يخالفهم الرأي وينتقد أطروحاتهم ويفنّد حججهم.
انتعش الخطاب السلفي في المغرب في السنوات العشر الأخيرة، مستفيداً من تسامح السلطة معه وتحالفه معها. وأيضاً من قمعها ومراقبتها وحصارها كل فكر معارض، أو مستقلٍّ يعبّر عن آراء لا تساير توجهها العام، ومن إجهازها على الإعلام المستقل الناقد، وإغلاقها الحقل السياسي وإغراقه بتنظيماتٍ طفيليةٍ هجينةٍ تقتات على الريع الذي تمنحه لها، ما أدّى إلى تراجع تأثير الأحزاب والنقابات والهيئات المدنية المستقلة وتأطيرها، وأفسح المجال واسعاً للتيار السلفي للتمدّد والانتشار واستقطاب مزيدٍ من الأتباع، مستغلّا حالة الفراغ والإحباط العام، ومستثمراً خطاباً دينياً تبسيطياً يعتمد على مفاهيم بسيطة وخطاب شعبوي جذّاب وفارغ.
لا تكمن خطورة ظاهرة تمدّد الخطاب السلفي فقط في سرعة انتشاره، أو قدرته الفائقة والكبيرة على الاستقطاب والتأثير، وأثر ذلك على الأجيال الناشئة التي ستكبر، وهي تحمل أفكاراً تكفيريةً وأخرى متخلفة منغلقة، تعادي التطوّر والتقدم والتحديث، وإنما مصدر الخطر الكبير الذي يجب الحذر منه هو تقلّب (ونفاق) حاملي هذا الخطاب الذين لا يمكن الوثوق فيهم أو الاستكانة إلى خطاباتهم مهما بدت معتدلة وإصلاحية ومسالمة، لأن التجارب أظهرت قدرتهم الفائقة على قلب ظهر المجن، لكن من وثق فيهم ودعمهم أو اعتمد عليهم، ديدنهم في ذلك نفاقهم وتقيّتهم.
