"خمسون في خمسين".. لبنانيون يتذكرون الحرب الأهلية

منذ ١ يوم ١٨

يتذكّر اللبنانيون اليوم الحربَ الأهلية، بعد نصف قرن على شرارتها الأولى في الثالث عشر من إبريل/ نيسان 1975. يقفون عند المطالع والملامح الأولى، أمّا النهايات فما يزال تحتاج قوسُ إغلاقها إلى الكثير من النضال وترسيخ ثقافة السِّلم بين الأجيال، حتى عند تلك التي لم تعشها بشكل مباشر.

"خمسون في خمسين"، واحدة من بين فعاليات عديدة تنتظم في بيروت هذه الأيام، أُقيمت أول من أمس الجمعة في "المكتبة الوطنية" بمنطقة الصنائع، وافتتحها وزير الثقافة غسان سلامة بكلمة مقتضبة أشار فيها إلى أنّ "تلك الحرب كانت حرباً في حروب"، ولفت إلى أنّ فعل التذكّر في ذاته ظاهرة صحّية كما الحقّ في النسيان. وتلت كلمةَ سلامة أُخرى ألقاها رئيس الحكومة نواف سلام، أكّد فيها أنّ "اللبنانيّين وجدوا أنفسهم بعد نهاية الحرب أمام مصارحة لم تكتمل وعدالة لم تتحقّق"، مُنبّهاً على ضرورة الطريق الإجباري الذي اسمُه الدولة، اليوم، حتى لا يعود الماضي.

غصّت قاعة المكتبة بالحضور الذي غلب عليه الطابع الرسمي، وفي نسبة كبيرة منه من الجيل الذي عايش الحرب أو إحدى مراحلها، في حين لم تُسجِّل الأجيال الشابّة حضورَها في الفعالية سوى بمداخلة واحدة. تجوّل الحاضرون، بدايةً، في أرجاء معرضٍ (يتواصل حتى 16 الجاري) يتضمّن كتباً وأرشيفات صحف، وصُوراً أيقونية بالأبيض والأسود، التُقطت بين عامَي 1975 و1990 لخطوط التّماس، ومُقاتلي المليشيات، وأمراء الحرب، وبطبيعة الحال للناس المُعذّبة. نتمعّن هنا قليلاً؛ ربّما تكون هذه الحرب الأبرزَ في المنطقة التي علَت فيها كلمة الكاميرا العادية والمصوّرين، الذين يُقال عنهم عادةً إنهم يركضون بعكس الناس حين تقع الكارثة أو الحرب، فحيث يبتعد الناس نجد المصوّرين يقتربون. وضمن هذا السياق، تمّ تكريم أربعة مصوّرين عاشوا الحرب ووقعوا الكثير من صورها: الراحل جورج سمرجيان، وعباس سلمان، ونبيل إسماعيل، وميشال صايغ.

 آثار الحرب ما تزال قائمة ولا يبدّدها سوى الإجماع على بناء الدولة

ومن المصوّرين ننتقل إلى جلسة أولى، بعنوان "شهادات ومقاربات للتعامل مع الماضي"، نظّمها "منتدى الذاكرة والغد"، وبدأها كلٌّ من زياد صعب وأسعد شفتري من "محاربون من أجل السلام"، إذ يروي كلٌّ منهما رحلتَه من الشباب الضائع في القتال وراء المتاريس بصُحبة البندقية، إلى لحظة إلقاء السلاح، والتي لم يكن لها أن تأتي إلّا بعد امتحان عسير، سقطت فيه الأيديولوجيات، لكن "التروما" ما تزال تفعل فعلها، وخيضت من أجل السلام رحلاتٌ أكثر ديمومة على المستوى الإنساني عنوانها الاعتذار والمسامحة. كذلك قدّم علي أبو دهن، صاحب كتاب "عائد من جهنّم"، مداخلة عن قضية المعتقلين في السجون السورية، إحدى أفظع فصول الحرب والتي لم تُحسم إلا بسقوط نظام الأسد.

شرعت مداخلة أبو دهن الباب أمام التوسّع أكثر في الحديث عن قضية المغيّبين والمختفين قسراً، ذلك الجرح الذي لم يلتئم. فجاء دور وداد حلواني، مؤسِّسة "لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان"، لتنبّه إلى أنّها المرّة الأولى التي تُطرح هذه القضية بحضور رسمي، بعد أن أوصد زعماء الطوائف الأبواب بوجه ذوي المفقودين. بدورها لفتت سعاد هرباوي إلى تمكُّن اللجنة، عام 2018، من انتزاع "قانون المفقودين والمخفيّين قسراً" من البرلمان، بعد نضال دام لعقود. وفي إطار مساهمة النساء الفاعلة في "خمسون في خمسين"، تناولت نايلة خضر حمادة بمداخلتها ثلاثة مفاهيم "تعليم التاريخ، والذاكرة، والأرشفة"، موضّحة ما يعيشه لبنان بعد الحرب من "حروب على الذاكرة"، كما وقفت جنان ضومط عند مسألة "الإصلاح القضائي"، واختتم أريج كوكاش الجلسة الأولى، بمداخلة مثّل فيها صوت الجيل الشابّ الذي لم يُشارك في الحرب، لكنه تلقّن سرديّة ذات اتجاه واحد عنها من محيطه.

أمّا الجلسة الثانية فجاءت تحت عنوان "ماذا تغيّر بعد انطلاقة الحرب في لبنان؟"، وافتتحها الباحث وجيه قانصو الذي قدّم مقاربة من زاوية سياسية، معتبراً أنه رغم مرور أكثر من خمسة وثلاثين عاماً على نهاية الحرب لم يتمّ بعد الوقوف على أسبابها الفعلية والعميقة، مع أنّها ساهمت بالفعل في وضع المجتمع اللبناني أمام المرآة. ووفقاً لقانصو فإنّ آثار الحرب ما زالت قائمة، كما أنها رست مع مؤتمر الطائف على نهايات مفتوحة.

التغيير الثاني قاربَه، على المستوى الاجتماعي، مدير فرع "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في بيروت، الباحث خالد زيادة، حيث عاد إلى لبنان الخمسينيات والستينيات الذي شهد اتساعاً عمرانياً كان مساحة للمشترَك على اختلاف التكوينات. لكن بعد الحرب اختلف الواقع، بل إنّ الحرب "قطعت الطريق" على تلك السيرورة العمرانية، وفقاً لصاحب "مصر الثقافة والهوية" (2024)، وأرسَت بالعُنف ظواهر اجتماعية مختلفة من أبرزها: التهجير القسري، والعودة من المدينة إلى الريف، وازدياد في تقوقع بعض الطوائف على ذاتها، ونموّ الريف على حساب المدن، وتفريغ المؤسسات التعليمية اللبنانية وعلى رأسها "الجامعة اللبنانية".

بدوره وقف الروائي والكاتب محمد أبي سمرا عند التغيير بوجهه الثقافي، منبّهاً إلى تلك الظواهر التي باتت تكتسح الفضاء العام بعد انتهاء الحرب، والتي تظهر بوصفها نوعاً من الترقّي الاجتماعي، ولكنها في العمق ناجمة عن علاقات تُدار على "مسرح الأذى اللبناني"، كما يستعير من عقل العويط عنوان أحد مقالاته. كذلك طاف أبي سمرا في قراءة على جملة من أبرز ملاحظات وضّاح شرارة وأحمد بيضون، اللذين يُعدّان من أبرز الأسماء التي تناولت الحرب الأهلية اللبنانية، بل عايشتها.

واختتمت الروائية نجوى بركات هذا اليوم التذكاري بمداخلة حملت عنوان "كيف توثّق اليوم رواية الحرب في لبنان؟"، لافتةً إلى أنّ "الحرب ما تزال حاضرة في السرد، والرواية لم تتخلّص بعد من هذه الذكرى المستعادة بداياتها مراراً، لكن ماذا عن النهايات؟ متى يحين موعدها؟"، وفقاً لتساؤل صاحبة رواية "غيبة مَيّ" (صدرت حديثاً عن "دار الآداب"). بركات التي تزخر أعمالُها باستلهامات عديدة من زمن الحرب، اعتبرت أنّه يُمكننا الحديث بالفعل عن "وراثة جينة الحرب"، بمعنى أن تأثيراتها امتدّت لتشمل أجيالاً جديدة، وأنها استوعبت كلّ الطابع الإنساني بما في ذلك ثنائية الجلّاد والضحية. لم تقتصر مداخلة الروائية اللبنانية على الجانب الموضوعي، بل قرأت انعكاس الحرب، أيضاً، في الأشكال والتقنيات السردية، حيث التفكّك والتشظي يُشبهان الواقع الغائم. لكن يبقى الدور الأهمّ للرواية حيال الحرب، وفقاً لبركات، أنها كانت أداةً لمقاومة النسيان.

قراءة المقال بالكامل