لم تُصنِّف الكاتبة الكويتيّة بثينة العيسى (1982) كتابها الجديد "دار خولة"، الصادر حديثاً عن "منشورات تكوين"، قصةً طويلة أم رواية قصيرة، ربما لأن الوصفين يصلحان، فهو أقرب إلى القصة الطويلة بعدد صفحات لا تتجاوز خمساً وثمانين صفحة، وتحكي عن أربع شخصيات ضمن حدث واحد تقريباً، إذ تبدو مثل "حكاية منزليّة" عن أُمّ وثلاثة أولاد وزوج متوفَّىً. ولكن وصف "الرواية" يبدو كذلك قريباً للتصنيف؛ لأن الحكاية تبدو، للوهلة الأولى، ضيّقة ومكتفية بتلك الشخصيّات، ولكنّها سرعان ما تتوسّع لتشمل بلداً ومنطقة وثقافتين مختلفتين: أميركيّة ومحلّية.
الدكتورة خولة سليمان، الأُمّ، خسرت زوجها قتيبة، مدرّس اللغة العربيّة وعاشق الشعر القديم، حتى قبل وفاته، من خلال تسجيلها لابنها البكر ناصر في المدرسة الأميركية، ظانّة أن ذلك سيُنتِج منه ابناً مُتشرّباً ليس فقط للثقافتين العربية/ الخليجيّة والأميركية، بل حتى لقامات وجمال الأميركيين البيض الذين شاهدتهم ورحّبت بهم، بعد تحرير الكويت، وقدّمت لهم، مفتونة، القهوة والحلويات. لكن ناصر سيخسر الثقافتين معاً، وسيصبح شخصاً كسولاً وعاقّاً، إن جاز التعبير، وسينفصل عن والدته سريعاً ونهائياً ليعيش عند جدّته. لن يبقى من عصافيرها الثلاثة سوى يوسف الذي سيتزوّج ويُطلِّق ويصبح عنده توأمان تضطرّ الأُمّ لرعايتهما. وحمد الولد الثالث المشغول دائماً عنها وعن بقيّة أفراد العائلة.
المرارة والفضيحة
هذا يعني أنّ خولة (55 عاماً) تعيش وحيدةً في أرجوحة الشيخوخة، وهي قادرة على العيش وحيدة "إلّا فيما يتعلّق بتبديل اللمبات المحترقة وفتح البرطمانات". ولكن الوحشة تزداد وتتكثّف وتُخيف في أول الصباح وفي آخر الليل "عندها تكتشف أن وراء الصمت صمتاً ثانياً، وتحدس أنّ وراء الصمت الثاني صمتاً ثالثاً، ورابعاً وعاشراً ومئة وألفاً". كانت تعيش في البيت وحيدة مع ولديها يوسف وحمد! حيث كان وجودهما في البيت "يملؤها مرارة".
تُسلّط الضوء على واقع تتجاذبه أزمات الحياة السريعة
تبدو كلّ الأشياء التي تهمُّ خولة، الفنّانة المثقّفة، قديمة، وبشكل ما مُضحكة لأبنائها، وشكّل الحوار الإعلامي معها قبل سبع سنوات "فضيحة" للعائلة، بسبب جرأة ومباشرة وهجوميّة آراء خولة حول الأوضاع السياسية والثقافية والاقتصادية والدينيّة في الكويت والعالم العربي والإسلامي. ولأن أولادها يعيشون مع وسائل التواصل الاجتماعي أكثر من عيشهم معها، بل أكثر من عيشهم حياتهم الحقيقيّة، ولكنّهم يغرقون، في نفس الوقت، داخل الحوض المليء بأعراف وبأصول المجتمع الذي ينتمون إليه، صدمتهم كمّيات السخرية من أفكار والدتهم على تلك المنصّات.
بعد سبع سنوات من تلك الفضيحة المدوّية، تتصل مُعدّة برامج بخولة من أجل إجراء حوار معها حول حياتها وعائلتها وأفكارها. ولأن ذلك البرنامج يُصوَّر جزء منه في بيت المُحاوَر، فكان على خولة أن تدعو أولادها الثلاثة على "عشاء عمل" لطرح فكرة قبول إجراء الحوار الجديد، وإمكانية ظهور أولادها معها في ذلك اللقاء. وهذا العشاء أظهر مقدار وحشتها وانفصالها عن عالم ولديها ناصر ويوسف، فحمد لم يحضر ذلك العشاء، لأنّ أخويه تشاجرا في نهاية العشاء ووعدا بعضهما بالقتل!
الماضي الرومانسي
نجحت صاحبة رواية "سعار" (2005) في بناء شخصيّاتها خارجياً وداخلياً، فصار من الممكن للقارئ أن يكتشف تلك الشخصيات لو مرّت بجانبه في الأسواق، متنقّلة بين البناء الجسدي والفكري والنفسي بشكل سلس ومُقنع، شارحة الفوارق بين الشخصيّة التي ما زالت تعيش ماضياً رومانسياً، بل حتى أفكاراً رومانسيّة وروحانيّة، والشخصيات التي تلهث ضمن وتحت تأثير عجلة الحياة السريعة والمادّية، معطية شخصية خولة أكثر تنقيباتها النفسية والفكرية، بينما تفاوت ذلك بين شخصيات ناصر ويوسف وحمد وقتيبة (الزوج)، وذلك لا ينتقص من قيمة العمل في النهاية.
وفي حوارات شخصياتها حوّلت صاحبة رواية "عائشة تنزل إلى العالم السفلي" (2012) الأمر، في أكثر من مكان، إلى مشاهد مسرحيّة مؤثّرة، كما يحصل عادة في مسرحيّات الغرفة.
شخصية قتيبة بدت أكثر رومانسية، وطاعنة في غيابها، لولا أنه لم يعش تلك الفضيحة الحوارية في التلفزيون، وإلا لكان وقف إلى جانب زوجته ضدّ الظلم وسوء التفاهم اللذين طاولاها بأرقام قياسيّة من السخرية والتجريح.
قتيبة كان عاشقاً للشعر وللغة، ومن شدّة حبّه لخولة كان يُغيّر أسماء المعشوقات في أبيات الشعر ويضع بدلاً عنها اسم خولة. مثل "لخولة أطلال ببرقة ثهمد"، أو "عِمي صباحاً دار خولة واسلمي"، أو "يا دار خولة بالجواء تكلّمي"... ومنها جاء عنوان الرواية "دار خولة". العنوان الرومانسي حول شخصيات - ما عدا الأُمّ - تعيش أقصى حالات المادّية والانفصال عن بعضها البعض.
تُنوّع في أشكال السرد مع استخدام سلس للهجة الكويتية
كانت هذه الرومانسية، بين قتيبة وخولة، مُضحكة للأولاد. فيوسف "تخيّل حوارهما الرومانسيّ الضاحك، وأحسّ نفسه ابناً لاثنين من المعاتيه، يخلطان الشعر بالحُبّ، والحُبّ بالزواج، والزواج بالسياسة، والسياسة بكل شيء". وتخيّل ظهور والده مع أُمّه في الحوار التلفزيوني القادم، وبأنّ الناس في المجالس ستتحدّث عن "غياب المرجلة"، وسيُقذف بـ"الدياثة" و"انعدام الغيرة"، وسيقول بعضهم بأنه "خروف"، وهكذا ستكتمل القطعة الناقصة في "أوديسا بهائم العائلة".
أمّا ناصر، الابن البكر، فهو يبدو ميّتاً، في علاقته مع والدته، وهو على قيد الحياة، وخولة تحاول أن تستعيده بعد فوات الأوان. ابن ينتبه جيّداً لكلامه وأجوبته حتى لا يناديها "أُمّي" أو "يُمه"، وهو ببساطة "لا يملك أفكاراً تخصّه"، وكلّ ما يفعله هو "إعادة تدوير لأشباه أفكار الآخرين". ولا ينسى أنّ أُمّه كانت عاراً بمقارنة حنانها وقسوتها وتربيتها بمبادئ التربية التي تلقّاها في المدرسة الأميركية.
ماء قديم
قدّمت صاحبة رواية "تحت أقدام الأُمّهات" (2009) أُمّاً مثل خولة مطرودة ومُفرَّغة من كلّ شيء، مثل حوض الأسماك في بيتها، والفارغ من الأسماك. بدت مثل ذاك الماء القديم في الحوض. مجرّد ماء لا يحتاجه أحد لكي يرتوي. بل يتجنّبه كلّ أحد لكيلا يجرحه فجأة معنى وطعم ذلك الماء القديم. ونجحت بثينة العيسى بشرح بطيء ومكثّف لعوالم خولة الجسدية والنفسية، وعَيشها لسوء التفاهم ذاك مع عالمها الصغير وعالمها الكبير.
تُنوّع في أشكال السرد مع استخدام سلس للهجة الكويتية
خولة رفضت إجراء الحوار الجديد حتى قبل إعداد العشاء مع ولديها. ولكن كان لديها أملٌ صغير وباهت في ولديها، أو أولادها، في أن يوافقوا على ظهورها في الحوار، وعلى ظهورهم معها عائلةً متماسكة. وظهورهم أولاداً يدعمون والدتهم ضدّ كل من يُريد أن يُبدّد أفكارها الصحيحة في السياسة والثقافة والتربية، وضدّ كل من يُريد خنق الصوت المختلف وزجره وإعادته صوتاً غير فرديّ ضمن أنشودة القطيع الواحد. ولكنّ ولديها، ناصر ويوسف، ينتميان إلى عالم آخر غير عالمها، كما أن عالمها ذا الأفكار الإنسانيّة والثقافية ما زال غير متوافق مع عالم ذكوريّ متسلّط. لذلك "كانت حزينة، نعم، ليس على اللقاء، بل لأن ولديها، رغم فظاظتهما، كانا على حقّ، وشعرت بأنها المرأة الأخيرة في قارّة تغرق على مرأى من الجميع. قارّة تُفقد دون أن يفتقدها أحد".
تتنوّع أشكال السرد لدى بثينة العيسى في هذه الرواية، واللغة تتغيّر معها من لغة شعريّة في كثير من الأحيان، إلى لغة وصفيّة تحليلية، مع بثّ الكثير من الجمل التحليلية والفلسفيّة، وحتى استخدام العيسى للهجة الكويتيّة جاء سلساً ومفهوماً للقارئ، ولم يُشكّل ثقلاً على الحكاية.
رواية "دار خولة"، التي صدرت الطبعة الأولى منها في تموز/ يوليو 2024، سرعان ما تلتها الطبعة الثانية في أيلول/ سبتمبر الماضي، وهو ما يحصل عادة مع روايات وقصص بثينة العيسى، التي تحظى بترحيب من القرّاء والنقّاد على حدّ سواء، تذهب لمآزق النفس البشريّة ووحدتها وهجرانها وسوء فهمها من أقرب الشخصيات لها. وحتى عندما يحاول أحدهم حلّ بعض مآزقها، من أجل تقريبها إلى داخل الحشد والجماعة، يجدُ بأنه أبعدها أكثر. كما عندما اشترى حمد سمكة زينة حمراء لحوض أسماك أُمّه الفارغ، وفكّر في ردّة فعل أُمّه خولة عندما تشاهد هذه الهدية في الصباح، إذ بعد دقائق "ألقى نظرة أخيرة على السمكة مسروراً بهديته الصغيرة، لكنه لم يفهم ما رآه. اقترب من الحوض حتى ألصق وجهه بالزجاج، وبحلق غير مصدّق؛ كانت السمكة طافية على بطنها، ميّتة جداً، لا تتحرّك فيها زعنفة واحدة". وكأن السمكة الصغيرة والجميلة وسريعة الحركة لم تتحمّل ذلك الماء القديم في الحوض.
* كاتب سوري مقيم في ألمانيا
