في اليوم الذي يعود فيه الرئيس المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، يتساءل الأميركيون، وربما العالم أجمع، عن أي نسخة من ترامب ستحكم الاقتصاد الأكبر في العالم في فترة الرئاسة الثانية. ويعقد المستثمرون وأصحاب الشركات على رجل الأعمال ترامب، الذي يدعم تقليل اللوائح التنظيمية، وخفض الضرائب، وأسعار الفائدة المنخفضة، والطاقة الوفيرة، والأسواق المستقرة. ولكن ربما يكون الأكثر ظهوراً هو ترامب الشعبوي، الذي يسعى لترحيل العمال المهاجرين، وفرض ضرائب ضخمة على الواردات، وتطبيق سياسات حمائية أخرى قد تؤدي إلى تباطؤ النمو، وزيادة التكاليف، وتأجيج التضخم.
ويدرك الكثيرون أن هناك أيضاً ترامب المثير للجدل، الذي يهدد بغزو غرينلاند، وضم كندا، واستعادة قناة بنما، ونشر الفوضى. ونظراً إلى أنه دونالد ترامب الذي نعرفه، فربما يجمع ساكن البيت الأبيض الجديد القديم الشخصيات الثلاثة، لينتج لنا الرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة الأميركية.
وفي حين يبدأ ترامب ولايته الثانية بميزة أساسية لم تتوفر في الفترة الأولى، وهي وراثته لاقتصاد قوي، مع نمو وظيفي كبير وتضخم أقل بكثير من ذروته البالغة 9% التي تم تسجيلها في عام 2022، فإنه يواجه أيضاً تحديات لم تكن موجودة عندما بدأت ولايته الأولى في عام 2017، حيث تخلق الحرب في أوكرانيا، وتصاعد العنف في الشرق الأوسط، وتعزيز الصين لقدراتها العسكرية، عالماً أكثر خطورة مما واجهه ترامب قبل ثماني سنوات.
هنا ملامح لأهم الملفات الاقتصادية التي يعتزم ترامب التعامل معها بقوة:
حروب ترامب التجارية وسياسة فرض التعريفات
يواجه المستثمرون تساؤلات حول مدى ارتفاع التعريفات الجمركية التي يعتزم ترامب فرضها خلال فترة رئاسته الثانية. وهدد ترامب بفرض تعريفات قد تكلف الأسر الأميركية مئات أو حتى آلاف الدولارات سنوياً، لكن المحللين، مثل أولئك في "غولدمان ساكس"، يعتقدون أن البيت الأبيض قد يتجنب المخاطر الاقتصادية والسياسية المرتبطة بتعريفات شاملة، مع احتمالية تخفيض التعريفات على الواردات الصينية إلى أقل من 60% نتيجة للاتفاقيات مع شركاء تجاريين آخرين.
وفي فترة ولايته الأولى، أثرت الحروب التجارية المتقطعة لترامب على الأسواق المالية بشكل كبير. ورغم ذلك، تركزت التكاليف الاقتصادية بشكل أساسي على السلع الصناعية بدلاً من المنتجات الاستهلاكية. وتشير توقعات "بنك أوف أميركا" إلى أن الشركات أصبحت أكثر قدرة على التكيف مع التعريفات بفضل تنويع مصادر الاستيراد بعيداً عن الصين، مما يقلل من مخاطر تأثير الحروب التجارية الجديدة مقارنة بعام 2018.
وفي حال تنفيذ ترامب لتصعيد شامل يشمل فرض تعريفات بنسبة 20% على جميع الواردات و60% على الواردات الصينية، قد تواجه الولايات المتحدة ركوداً قصير الأجل وزيادة في التضخم. وتشير تقديرات "معهد بيترسون" إلى أن هذه التعريفات قد تكلف الأسرة الأميركية أكثر من 2600 دولار سنوياً. ومع ذلك، تظل احتمالية حدوث هذا السيناريو منخفضة، إذ يعرض ترامب بانتظام بدائل لتجنب تطبيق التعريفات، مثل التعاون مع الشركاء التجاريين في قضايا الهجرة والمخدرات.
زيادة إنتاج النفط وتجاهل المخاطر البيئية
تعود أفكار ترامب المتعلقة بالطاقة إلى سياسات الثمانينيات، حيث يدعم زيادة إنتاج النفط والغاز الطبيعي، ويعتبر التغير المناخي "خدعة" ويستخف بمصادر الطاقة المتجددة مثل الرياح والطاقة الشمسية. ورغم أن ذلك يبدو وكأنه نهاية لأجندة الطاقة الخضراء التي تبناها بايدن، لكن صناعة الطاقة المتجددة أصبحت قطاعاً مزدهراً مع استثمارات بمئات المليارات من الدولارات، مما يجعل من الصعب تغيير هذا الاتجاه، خاصة مع تسارع التحول العالمي نحو الطاقة النظيفة.
وساعدت حوافز قانون خفض التضخم لعام 2022 الذي أقره بايدن على تعزيز الاستثمار في الطاقة المتجددة، حيث استهدفت معظم الأموال الشركات، وسمحت بتقديم إعفاءات ضريبية غير محدودة. وفي البداية، كانت التقديرات تشير إلى أن التكلفة على مدى عشر سنوات ستصل إلى 385 مليار دولار، لكنها الآن تفوق التريليون دولار بسبب إقبال الشركات الكبيرة على هذه الحوافز، مما أدى إلى تسارع التحول نحو الطاقة الخضراء بوتيرة أسرع من المتوقع.
ورغم سيطرة الجمهوريين على الكونغرس، فمن غير المرجح أن يتم إلغاء معظم الحوافز الخاصة بالطاقة المتجددة، حيث تستفيد الولايات والمناطق التي يديرها الجمهوريون من الاستثمارات في هذا القطاع. ومع ذلك، قد يتم تقليص بعض الإعفاءات الضريبية مثل تلك المتعلقة بشراء السيارات الكهربائية. وفي الوقت نفسه، يدفع القطاع الخاص عجلة الاستثمار في الطاقة المتجددة بفضل زيادة الطلب على الكهرباء، خاصة في مراكز البيانات ومواقع الذكاء الاصطناعي. وفي الوقت نفسه، بدأت شركات الوقود الأحفوري الكبرى الاستثمار في تقنيات الطاقة النظيفة مثل التقاط الكربون والهيدروجين الأخضر، مما يجعل من الصعب على ترامب أو غيره وقف هذا التحول.
العملات المشفرة
سيشكل تولي ترامب فترة رئاسية ثانية تحولًا كبيرًا في قطاع العملات الرقمية، حيث تعهد الرئيس المنتخب بجعل الولايات المتحدة "عاصمة العملات الرقمية على مستوى العالم". وقد دفع هذا التفاؤل بقيمة البيتكوين إلى تجاوز حاجز مائة ألف دولار (تجاوزت 109 آلاف دولار صباح اليوم الاثنين). ومن المتوقع أن يفي ترامب ببعض وعوده الرئيسية من خلال إصدار أمر تنفيذي يركز على العملات الرقمية، كما وعد بإقالة رئيس هيئة الأوراق المالية والبورصات (SEC)، غاري جينسلر، المعروف بعدائه للصناعة، واستبداله ببول أتكينز، المحامي الذي يحظى بدعم كبير من قطاع العملات الرقمية. وينتظر هذا التعيين موافقة مجلس الشيوخ، وقد يحظى بدعم بعض الديمقراطيين. وإذا تم تأكيد تعيينه، قد يتم سحب دعاوى الهيئة ضد شركات العملات الرقمية الكبرى مثل Coinbase وKraken، وإزالة العوائق التنظيمية أمام البنوك التي تحتفظ بالعملات الرقمية نيابة عن العملاء.
وإلى جانب ذلك، تعهد ترامب بمنع إطلاق العملة الرقمية للبنك المركزي الأميركي (CBDC)، وإنشاء مجلس استشاري رئاسي للعملات الرقمية يتضمن خبراء في الذكاء الاصطناعي والعملات الرقمية. يهدف هذا المجلس إلى وضع توجيهات تنظيمية شفافة خلال 100 يوم من توليه الرئاسة. ومع ذلك، ستكون المهمة الأصعب هي إقناع الكونغرس بتمرير تشريعات أكثر دعمًا للصناعة لتحديد صلاحيات الهيئات الرقابية المختلفة بوضوح.
الأسهم الأميركية
اشتهر ترامب بقياس نجاح فترة رئاسته الأولى من خلال أداء سوق الأسهم. ومع بداية فترة ولايته الثانية، قد يجد نفسه عاجزًا عن السيطرة على العامل الرئيسي الذي يُتوقع أن يؤثر على الأسواق في العام المقبل، وهو أسعار الفائدة. ومنذ انتخابه في 5 نوفمبر/تشرين الثاني، ارتفع العائد على سندات الخزانة لأجل 10 سنوات بنحو 40 نقطة أساس بسبب توقعات الأسواق بتقليص التخفيضات في أسعار الفائدة من قبل بنك الاحتياط الفيدرالي، وسط مخاوف من أن التضخم لن ينخفض سريعًا إلى هدف 2%. وبلغ العائد الآن 4.8%، وهو أعلى مستوى منذ إبريل/نيسان 2024، ما يشير إلى مستويات تُضعف شهية المستثمرين لشراء الأسهم. وتشير التجارب السابقة إلى أن ارتفاع العوائد قرب 5%، كما حدث في خريف 2023، أدى إلى تراجع مؤشر ستاندرد أند بورز 500 بنسبة 10% خلال ثلاثة أشهر.
ويواجه ترامب تحديًا في التأثير على أسعار الفائدة نحو الانخفاض، خاصة أن سياساته قد تزيد الضغوط التضخمية. وعلى سبيل المثال، أدت تصريحاته المتعلقة بالتعريفات الجمركية إلى ارتفاع العوائد في 6 يناير/كانون الثاني. ويخشى المستثمرون من أن التعريفات قد تزيد التضخم في وقت يكافح فيه الاقتصاد لتحقيق هدف البنك الفيدرالي البالغ 2%. وأظهرت محاضر اجتماع البنك الفيدرالي الأخير أن السياسات التجارية والهجرة المتوقعة قد تزيد من "المخاطر التصاعدية" للتضخم. وأشار جيروم باول، رئيس البنك الفيدرالي، إلى استقلالية البنك المركزي، مؤكدًا أنه لن يستجيب لتوجيهات ترامب.
السيارات الكهربائية
شهد قطاع السيارات الأميركي تقلبات ملحوظة بعد الازدهار الذي حققه خلال فترة الجائحة. وفي عام 2024، خفّضت كبرى الشركات مثل "جنرال موتورز" و"فورد" خططها للتوسع في السيارات الكهربائية بسبب ضعف الطلب المتوقع، كما أبدى ترامب تحفظاً تجاه التحول الكامل إلى السيارات الكهربائية، رغم علاقته القوية برئيس شركة "تسلا" إيلون ماسك، مشيراً إلى مشكلات مثل كلفة الإنتاج والبنية التحتية. ورغم دعمه للسيارات الكهربائية بشكل محدود، يسعى ترامب إلى التراجع عن متطلبات الانبعاثات الصارمة وبرنامج الحوافز الفيدرالية، والذي يعد عنصراً أساسياً لدعم المنافسين ولتيسير أسعار السيارات الكهربائية.
وتعاني شركات السيارات الأميركية تحديات أخرى مثل فائض المخزون بعد ازدهار المبيعات خلال الجائحة، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار الفائدة وزيادة الأسعار العامة. ومن جانبها، تحاول شركات مثل "ستيلانتس"، المُصنعة لعلامات "جيب" و"دودج"، ضبط مستويات مخزونها، لكن الضغوط على القطاع تفاقمت مع استقالة رئيسها التنفيذي في ديسمبر/كانون الأول. ويرى خبراء أن تجاهل التحول نحو السيارات الكهربائية قد يؤدي إلى تأخر الشركات الأميركية عن المنافسة العالمية في مجالات التقنيات الجديدة.
إيلون ماسك والكفاءة الحكومية
يتولى إيلون ماسك قيادة لجنة غير رسمية تسمى "DOGE" تهدف إلى جعل الحكومة الفيدرالية الأميركية أكثر كفاءة، وقد أطلق عليها هذا الاسم بوصفه إشارة ساخرة إلى العملة الرقمية "دوجكوين". وتسعى اللجنة، التي لا تتمتع بأي سلطة رسمية ولكن تحظى بدعم الرئيس ترامب وبعض أعضاء الكونغرس، لخفض الإنفاق الفيدرالي بمقدار تريليون دولار سنويًّا بحلول يوليو/تموز 2026. هذا الهدف صعب جدًّا نظرًا إلى أن معظم الميزانية الفيدرالية مخصصة لبرامج غير قابلة للمساس، مثل الضمان الاجتماعي والدفاع والفوائد.
وتركّز اللجنة على ثلاثة مجالات رئيسية، تشمل إزالة القوانين الزائدة، وتحسين كفاءة الوكالات الفيدرالية، وتقليل التكاليف. ورغم التحديات الكبيرة التي تواجهها، يرى المحللون أن جهودها قد تحقق بعض التحسينات، خاصة من خلال تخفيف القوانين الزائدة التي يمكن أن تعزز النمو الاقتصادي وتزيد الإيرادات الضريبية، مما يساهم في تقليل العجز السنوي.
الرجل الأغنى في العالم لديه بلا شك تأثير على ترامب، وسيستغل بعض هذا التأثير من خلال قيادة هذه اللجنة، وهي بالفعل تقوم بأعمال ميدانية. ومع ذلك، من المؤكد أن ماسك سيواجه معارضة شديدة من البيروقراطية التي أثبتت أنها شبه مستعصية على التغيير. وستكون تلك المعركة استعراضًا مثيرًا في عام 2025 وقد تصبح الحدث الرئيسي عندما تعلن توصياتها الكاملة في عام 2026.
