"ديك مسافر على جدار"... قصص الحنين

منذ ٢ أيام ٢١

يدرك المقرّبون من الناقد والأكاديمي الفلسطيني، إبراهيم أبو هشهش، أنه حكّاء من الطراز الرفيع، وأن لديه أسلوباً خاصّاً في سرد الحكايا وتشويق المستمع، ويشيدون بذاكرته البصرية الحادّة التي تستحضر أدقّ التفاصيل، وبدقّة ملاحظته وبسرعة بديهته وشدّة ذكائه وحضوره الإنساني الجميل. انعكس ذلك كلّه (وأكثر) في مجموعته القصصية الأولى "ديك مسافر على جدار" (دار الشروق، عمّان، 2025)، وقد وصفها الشاعر زهير أبو شايب في كلمة الغلاف بالعذبة، وأضاف أنها "تشكّل إسهاماً ثميناً في السرد الفلسطيني، وتنتبه إلى أن حياة الكائنات والأشياء والأفكار ليست نافلةً، بل هي امتداد حتمي لحياة البشر". ضمّت المجموعة 25 قصّة قصيرةً أراد لها الكاتب (عن سبق إصرار وتعمّد) ألا تغادر عوالم الطفولة، وقد استهلّها بعبارة لأدونيس، دالّة ومعبّرة عن روح المجموعة وفضائها النفسي الهشّ المرهف والحزين، "قرية صغيرة هي طفولتك، مع ذلك لن تقطع تخومها مهما أوغلت في السفر".
يعود أبو هشهش، في أولى القصص، إلى ذاته طفلاً يواجه صدمة الموت للمرّة الأولى: "لو أن الناس لا يموتون، بل يسافرون فقط". يستعير منطق الصغير المفجوع ليتداعى في تأمّلات بريئة حائرة ويطرح أسئلةَ الوجود الصعبة: "كنت خائفاً أن يخرج الميّت من النعش ويخطفني". يتكرّر السؤال المرير ذاته في قصّة فتاة صغيرة "كانت لعبتها المفضلة أن تدور بلا توقّف حول نفسها تاركةً فستانها الملوّن بأزهار كثيرة يدور حولها غير أنها اختفت، ماتت هكذا بلا مقدّمات كما قال أحد الصبية". يشرح أبو هشهش حالة الغفلة المرافقة لسِنيِ الطفولة قائلاً: "لم نكن مزوّدين بأي غريزة عدا غريزة الطمأنينة إلى الحياة". هكذا جسّد الكاتب بأبسط المفردات وأكثرها عمقاً رؤية الصغير المفزوع بحقائق الحياة، قبل أن تكتمل مداركه بعد.
يظلّ الموت الذي يتّخذ أشكالاً متعدّدة في القصص المتنوعة الثيمة الأساسية التي تشكّل المركز في المجموعة. رحيل مباغت لصغار لم تمهلهم الحياة طويلاً، واختطفهم الموت من ملاعبهم المرتجلة، وابتلعهم الغياب. وكهول غادروها غير آسفين، وعصافير وفراشات وأسراب نمل أجهز عليها صبيّ شقيّ وظلّ يعاني طويلاً الإحساس بالذنب.
ويبدو حضور فلسطين قوياً باعتبارها المكان الأول والفردوس المفقود والفضاء المسلوب من طفولة مهشّمة منقوصة، اُغتيلت لجيل بأكمله كبر قبل أوانه، واختبر الهزيمة والفقد والتهجير، وأقام قسرياً في الحنين والأسى: "وقعت الهزيمة وجثمت على الصدور وأحسّ الجميع بثقلها، حتى نحن الصغار بتنا نتحرّك بخطوات ثقيلة كأننا كهول".
تكتظّ المجموعة بالشخصيات المتفرّدة المثيرة للفضول؛ الشركسي العجوز "أبو عيسى" ودموعه الصامتة، والأستاذ "خليل أبو بكر" الذي أحبّه الصغار، و"موفّق بدر السلطي" الطيار الأردني الذي استُشهِد في معركة السموع، و"مطر" الرجل المجذوب الغامض الذي عاش ومات وحيداً، و"أبو فيصل" عامل المياومة غريب الأطوار الذي فُصِل من عمله فأصابه مسّ من الجنون.
احتفلت المجموعة بصمود المرأة الفلسطينية، وبالدور النضالي المكافح الذي قامت به لإعادة صنع الحياة بعد النكبة، وذلك في قصّة "فلتصعد هؤلاء الحطّابات": "هذه الحطّابة التي كانت حزمتها بسبعة قروش، أنجبت أحد أولادها وحيدةً في الخلاء، قطّعت الحبل السرّي بحجر، لفّته بطرف غدفتها وعادت إلى المخيّم، وليدها إلى صدرها وحزمة الحطب فوق رأسها".
"ديك مسافر على جدار"، مجموعة قصصية مختلفة في عفويتها وتدفّقها وصدقها الفنّي. عمل قصصي مدهش يحكي الحنين الذي ليس منه شفاء، و يستحقّ كثيراً من الانتباه.

قراءة المقال بالكامل