تحتشد الأسئلة في الطريق لحضور حفل إطلاق "ذاكرة فلسطين" للكاتبة التشيلية كريس كونتي، بترجمة الشاعر وليد السويركي، بما تثيره شهادات الكتاب حول النكبة التي تعرّضت كواقعة تاريخية لفائض تشويه ومحاولات محو للمقاومة الفلسطينية ضدّ الإحلال والتطهير العرقي الصهيوني، وكذلك تداعياتها القائمة بعد سبعة وسبعين عاماً في ظل استمرار الإبادة في غزّة.
أربع كلمات أُلقيت في الحفل الذي نظّمه "معهد الإعلام الأردني" في عمّان، مساء الأربعاء الماضي، للأميرة ريم علي وعزام فخر الدين، الذي دعم ترجمة الكتاب الصادر بالفرنسية ثم الإسبانية والإنكليزية، قبل تعريبه، والطبيب الفلسطيني غسان أبو ستّة الذي كتب مقدّمة النسخة العربية، وكذلك المؤلفة التي أضاءت رحلة استمرت نحو عشر سنوات ساهم فيها صحافيون ومترجمون وباحثون ومخرجون ورسّامو خرائط.
وعلى هامش الحدث، عُرضت صور التقطتها ألتير ألكانتارا، الشريكة في تأليف الكتاب، تتعلّق بأصحاب الشهادات الثماني عشرة، وأُخرى صوّرتها للقدس المحتلّة عام 2018 ثبّتت في خاتمة جميع النسخ التي صدرت باللغات الأربع، مع إضافة صور لثلاث شهادات إضافية احتوتها النسخة العربية بعدسة ليندا خوري.
تبيّن الشهادات كيف تغيرت حياة أصحابها بعد أن فرقّتهم المنافي
الربط بين ما يجري في القطاع وبين واقعة النكبة، توضّحه مقدمة الكتاب لأبو ستة، حيث يقول فيها "لقد شكلت تجربة عام 1948 الهوية الفلسطينية، خصوصاً في الأماكن مثل غزة، حيث يشكل اللاجئون 85% من السكان، والذين توصّلوا إلى قناعة بأنه إذا كان لا بد أن تموت، فإنك ستموت مرة واحدة فقط". مشيراً إلى أن أهمية الكتاب تكمن في أنه يوثق تلك اللحظات من وجود أناس مختلفين عندما حدث ذلك الموت الاجتماعي وغيّر حياتهم "في مجتمع ناهض كان ينتقل إلى الحداثة بالتعليم والميكنة. ثم، حدثت نكبة 1948".
وتقف المقدمة عند اللحظة الراهنة كما يراها أبو ستة: "مهما تكن نهاية هذه الحرب في غزة ونتيجتها، لا أحد يجب أن يروي شهاداتها غير الفلسطينيين. علينا نحن أن نحكي قصصنا بأنفسنا، لأنا إذا لم نفعل، سيختلق الطرف الآخر قصة كما فعل كل الوقت منذ عام 1948 – بل وحتى قبل ذلك". مضيفاً "الأهم من ذلك، أن نأخذ في الاعتبار قصة ذلك الجيل الأول، الذي منع محو الفلسطينيين من خلال أعمال فردية من الشجاعة والحب والتضحية. ليس التضحية من أجل القضية السياسية فحسب، وإنما أعمال التضحية الفردية التي اجترحتها العائلات لضمان بقائها".
تُغني الروايات التي سردها الشهود التدوين التاريخي الأيام الأخيرة التي عاشها الفلسطينيون قبل الحرب، وبعد اندلاعها وما ارتُكب خلالها من مذابح، وتعمّق طبيعة علاقتهم بأمكنتهم وأشغالهم وتفاصيلهم اليومية، وكيف تغيرت وانقلبت أحواله بعد أن فرقّهم اللجوء والمنافي.
ماجد أبو شرار في غزّة
صدور النسخة العربية حيث تعود السردية إلى نصّها الأصلي، صحّح المترجم وليد السويركي أخطاء تتعلّق ببعض الأسماء والتسميات، وكذلك تدقيق رواية أحداث تحوَّر قليل منها بسبب مشاكل في ترجمتها من العربية إلى لغات أوروبية، ومنها ما ورد في شهادة "القلم، والسياسة، والخبز المرّ.. ماجد أبو شرار" التي تحيط بسيرة الكاتب والسياسي الفلسطيني الذي اغتاله الموساد الإسرائيلي في التاسع من أكتوبر/ تشرين الأول 1981 في روما.
تضمّن الكتاب صوراً للقدس من عام 2018 التقطتها ألتير ألكانتارا
وتتطرّق الشهادة إلى استقرار والد أبو شرار عام 1949 في غزّة، برفقة أبنائه الكبار في غزّة، حيث عمل فيها محامياً وقاضياً، وقضى ماجد شطراً من مراهقته في تلك المدينة المليئة بمخيّمات اللاجئين، حيث درّس أطفالهم مع أخته الكبرى يسرى، ونجا الشقيقان ذات مرة من قصف الطائرات الإسرائيلية "الذي خلّف الأرض جريحة والبشر كالأشباح"، بحسب الكتاب الذي يلفت إلى أن ماجد درس الحقوق في الإسكندرية ثم عاد إلى "جامعة غزة" حيث التقى بأحد أساتذته، الشّاعر معين بسيسو، الذي سيتأثّر به تأثراً كبيراً، وبتوجّهاته الماركسية.
شاهدة على مذبحة الدوايمة
رشديّة هديب، إحدى النّاجيات من قرية الدوايمة غرب الخليل، حيث ارتكبت المذبحة كتيبة من جيش الاحتلال الإسرائيليّ في الأيام الأخيرة من شهر أكتوبر/ تشرين أوّل 1948، روت كيف حدّد عمُّها مختار القرية هدفين: إكرام الشهداء بدفنهم، وكان قد قُتل 450 شخصاً من أصل 6000 نسمة مجموع سكّان قرية الدوايمة، ثم الاهتمام بأمر الأحياء وإيجاد مكان آمن للناجين من المجزرة، بيت يؤويهم في الشتاء، وملابس دافئة، وطعام، فتوجّه الناجون إلى أريحا في وادي الأردن، بالضفّة الغربيّة، حيث كان الصليب الأحمر قد شرع في إقامة عدّة مخيمات للاجئين الفلسطينيّين.
في شهادتها "رعبٌ في الدوايمة"، تنتقل رشدية إلى زمن مخيم أريحا خلال حرب الأيام الستّة عام 1967، وكان زوجها يعمل في العقبة، إذ لم تتمكّن من اللجوء إلى مكان آمن في الضفّة الأخرى من نهر الأردن عند بدء الطائرات الإسرائيليّة والتحليق، وضيّعت في تلك اللحظة ابنيها زياد، ذي التّسع سنوات (الشاعر والمترجم زياد هديب الذي رحل العام الماضي)، ومحمد ابن السّنتَين (الزميل الشاعر والصحافي)، بينما كانت تحمل ابنتها البالغة من العمر 50 يومًاً بين ذراعيها، وقد انتابتها حالة هستيريّة لم تنته بعد أن عثرت على ولديها اللذين نجَوَا من قنبلة سقطت بالقرب منها وأنقذهما أحد الجيران، فبقيت بعد سنوات تستيقظ في الليل صارخة: "أين ولداي؟".
حيفا كما كانت
تسجّل سعاد قرمان ذكريات عائلية تتقاطع مع محطات سياسية واجتماعية من تاريخ مدينتها حيفا المحتلة التي شهدت قبل النكبة تأسيس مصانع ومعامل ومحال تجارية، ومنها الإضراب العام عام 1936، و قصف الطائرات الألمانيّة والإيطاليّة الذي استهدف المنطقة الصناعيّة ومصافي حيفا سنة 1942 خلال الحرب العالمية الثانية، وصولاً إلى عام 1948، حيث اقتحمت الهاغاناه مزرعة عائلة سعاد بحجة أنّه قد يكون بين العاملين من قدّم معلومات مهمّة للجيوش العربية في الجليل.
ومع تدهور أحوال المدينة، قرّر عمّ سعاد إرسال الأطفال، ومعهم عمّتها وزوجة أخيها، وكانت كلتاهما حاملاً، إلى لبنان وبقيت حتى أوائل عام 1949، ليعودوا مرة أخرى إلى حيفا وتقرر العائلة الصمود فيها رغم تدهور أوضاعها الاقتصادية حيث نال الإنهاك من العمّ طاهر، فأصيب بجلطة لفظ على إثرها أنفاسه الأخيرة عام 1952، فـ"لم تقم للعائلة قائمة بعده" وفق ما تروي سعاد.
واحد وعشرون فيلماً منتظراً
في كلمة عزام فخر الدين خلال حفل الإشهار، وهو الذي دعم إصدار الكتاب، أشار إلى أن كل شهادة يمكن أن تحوّل إلى فيلم، ومنها شهادة والده مروان فخر الدين بعنوان "ابن فدائيّ"، إلى جانب شهادات "البنت على أسطح القدس" لسهيلة الششتاوي، و"الدافع ضدّ تجميد الأموال" لفؤاد شحادة، و"الغريب" لفيصل درّاج، و"حارس أشجار الزيتون" لسليمان حسن، و"مناضلة الناصرة" لسميرة خبيص خوري، و"الأرض المُرضعة" لعبد الرحمن النجّاب، و"غائبة" لأميمة مهتدي العلمي، و"حريّة الصوفيّ" لمحمّد التيجاني، و"المعلّم" لصلاح الدين عيسى، و"من غزّة إلى ريو، مسيرة رجلٍ من وطن المسيح" لمحيي الدين الجمل، و"أمّ العودة" لحليمة محمد مصطفى، و"البطريرك" لميشيل صبّاح، و"التميّز، واجب امرأة فلسطينية،" لتمام الغول، و"يوم أنقذت الحيلةُ بتِّير" لحسن إبراهيم حربوك، و"العودة إلى البيت إلى فلسطين" لإلهام أبو غزالة، و"تشيليٌّ-فلسطينيّ: فلسطينيٌّ من تشيلي أم تشيليٌّ من أصلٍ فلسطينيّ؟" لنخلة شهوان، و"طفل يافا" لزكي نورسي.
