ما إن تغادر مبنى مطار بغداد الدولي حتى تقابلك صورة كبيرة لأبي مهدي المهندس، أحد قادة الحشد الشعبي العراقي الذي اغتيل بغارة جوية أميركية عام 2020 برفقة قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني. وعلى بعد أمتار من تلك الصورة، يواجهك هيكلا السيارتين المتفحمتين اللتين قصفتهما الطائرات الأميركية واغتالت فيهما الرجلين، حيث تم وضعهما شاهداً على ضراوة عملية الاغتيال. يبعث عرض الهياكل المتفحّمة للسيارتين على جانب الطريق رسالة أن الحساب لم يغلق، وأن هناك ثأراً قد يطول انتظاره، كما يمثل عملية توجيه مستمرّة للزائرين حول قساوة الجاني.
وما إن تصل إلى داخل عاصمة الرشيد، حتى تواجهك الصور العملاقة التي تجمع سليماني وحسن نصر الله وإسماعيل هنية ويحيى السنوار والمهندس، أحياناً كلها مجتمعة على لافتة واحدة. تبعث هذه الصور رسائل عديدة، منها ما هو تجسيدٌ لمحور المقاومة من خلال لقاء رموزه في مكان واحد (عابر للطائفية فهناك الشيعي والسني)، ومنها ما يعبّر عن الهوية السياسية السائدة في بغداد في الوقت الراهن. ولا تخلو الهوية السياسية ايضاً من المضامين الطائفية في بعض الصور، ولا سيما التي تظهر شهداء في صور مختلفة تم التعبير عنهم بلقب "أخوة زينب".
ليست الطائفية في المدينة مجرد فكرة أو صورة، ولكن تجسيدها بشكل مادي يبقي الاستقطاب الطائفي حياً وله عنوان ومكان. فها هو حي الكاظمية الذي يحتضن مرقد موسى الكاظم، الإمام السابع عند الشيعة الاثني عشرية، وقد أخذ الحي اسمَه من الإمام ويشكّل تجمّعاً سكنياً ومزاراً للشيعة، وهناك حي الأعظمية الذي يحتضن مرقد أبي حنيفة، أول الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، والذي هو الآخر أخذ اسمه من الإمام، وأصبح غالبية قاطنيه من السنة. ويشكّل هذا التجسيد الفيزيائي قاعدة صلبة للفرز الطائفي الذي يحميه ويبقيه حياً في أذهان قاطنيهم، وكذلك الزائرين الذين أصبحوا يميّزون تنقّلهم ما بين الأحياء الشيعية والسنية.
ليست الطائفية في بغداد مجرد فكرة أو صورة، ولكن تجسيدها بشكل مادي يبقي الاستقطاب الطائفي حياً وله عنوان ومكان
ولا يخفي طابع المدينة العام الوجه القاسي للحروب التي مرّت بها، وتركت بصماتها في جوانب عديدة. سألتُ سائق السيارة الذي أقلني إلى الفندق، وكان يستمع إلى غناء عراقي عن سبب اتسام الفن العراقي بالحزن، فأجاب ضاحكاً "إننا لم نتوقّف عن خوض الحروب خلال العقود الماضية، فما الذي تتوقّعه غير الحزن والألم في غنائنا". من أهم ما تركته الحروب على العاصمة الطابع القديم للمدينة والمباني المتآكلة في المدينة، والتي تفيد بأن حركة النمو العمراني والبنى التحتية قد توقفت منذ عقود، فأزمة السير الخانقة التي تفوق الكثير من مثيلاتها من العواصم العالمية تشير، بوضوح، إلى أن استثماراً حقيقياً لم يحدُث في طرق العاصمة وشوارعها، ما جعل من التحرّك بين مكان وآخر مهمّة لا يمكن إنجازها إلا بشقّ الأنفس.
... لكن، على الرغم من التحدّيات التي فرضتها الطائفية والحروب على المدينة، لم يفتّ ذلك في عضد "حاضرة الدنيا"، بغداد التي أطلق عليها هذا اللقب، في إشارة إلى ازدهارها في مختلف العصور. بغداد التي يخبرنا الإعلام بانعدام الأمن فيها، تعجّ الحياة في كل حواريها، ويتجوّل الزائر فيها بلا وجلٍ ولا رهبة، وبدون نقاط تفتيشٍ أمنيةٍ كالتي عايشتها المدينة بعد الغزو الأميركي للمدينة. لقد غبنا عن بغداد، ولكنها لم تغب عنّا، فهي متواصلة مع العالم الحاضر ومحتفظة بالعالم الذي نسيناه. هل تذكرون مدينة حيفا؟ بغداد تذكُرها وتردّدها كل يوم على ألسنة مواطنيها، فالناس يتجوّلون في شارع حيفا ويشترون الدواء من صيدلية حيفا، ويعتاشون على الخبز من بقالة حيفا!. وعندما يحضرها الضيوف، ففي فندق فلسطين لهم مكان يهجعون إليه. بغداد تنبض بالحياة في عيون (وفكر) طلاب جامعة البيان الذين جاؤوا إلى محاضرةٍ قدّمتها هناك في الجامعة عن "شرق أوسط مختلف"، فمستوى الوعي والانخراط في قضايا الشرق الأوسط وتصميمهم على غدٍ أفضل أدهشني. بغداد لم تنس ماضيها، فأثر رصاص الغزو الأميركي ما زال شاهداً على جدران مرقد الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان في الأعظمية.
برغم جراحها، ما زالت بغداد شامخةً بعلمها وتاريخها وأنهارها، فبيت الحكمة الذي ألقى هولاكو بكتبه ومخطوطاته في نهر دجلة عاد اليوم لينبض بالنشاط الثقافي والعلمي، وبقي النهر حياً ينبض بالجمال، ويسرّ منظره أعين زائري المدينة. "لقد مات هولاكو ولم يمت دجلة/ ولم يمت بيت الحكمة بعينيه يقاتل".
ما زالت بغداد قوية بما يمكن تسميتها "البنى التحتية للمعرفة" فيها، والتي تشكّل القاعدة الحيوية الحاملة للأنشطة العلمية والثقافية
صحيحٌ أن البنى التحتية من طرق وكهرباء في المدينة تئن من شراسة الحروب التي عايشتها، إلا أن بغداد ما زالت قوية بما يمكن تسميتها "البنى التحتية للمعرفة" فيها، والتي تشكّل القاعدة الحيوية الحاملة للأنشطة العلمية والثقافية التي تبثّ الأمل في ازدهارها، والتي تذكّر ساكنها بعصور من إنتاج المعرفة السومري والأكادي والبابلي والآشوري والإسلامي وغيرها. فما إن تصل إلى شارع المتنبي في بغداد، حتى يقابلك تمثال "شاعر العرب" بكلماته التي ما زالت تصدَح في فضاء المدينة "الخيل والليل والبيداء تعرفني،" وما إن تتّجه يميناً حتى يقابلك تمثال رائدة الشعر الحر، نازك الملائكة، وكأنه يعانق السماء بكبريائه وتاريخه.
تتجلى البنى التحتية للمعرفة في بغداد بأبهى صورها في المتحف العراقي الذي فقد آلافاً من قطعه الأثرية خلال الحرب، وتم واستُعيد جزء كبير منها بعد ذلك. هناك في الطابق الثاني للمتحف يقف تمثال أنكيدو، الشخصية الأسطورية السومرية، شاهداً ومتحدّثاً عن أكثر من ثلاثة آلاف عامٍ من الحضارة في بلاد الرافدين. نظرتُ إلى التمثال، فحضرتني كلمات محمود درويش "هات الدمع أنكيدو/ ليبكي الميت فينا الحي/ من ينام الآن أنكيدو/ أنا أم أنت، أنكيدو... خيالي لم يعد يكفي لأكمل رحلتي". هناك بالتحليق بتمثال أنكيدو تتساءل حقّاً من الميت فينا، نحن العابرون أم الحي الذي وقف الآف السنين يُلهم أجيالاً لإنتاج الأدب والفلسفة والعلم والمعرفة. لقد رأيتُ أنكيدو، وسمعتُه يقصّ علينا فلسفته في البدائية والتمدّن والخلود والمرأة والخل الوفي. خاطبتُ أنكيدو: فلتسترح، يا صديقي، أما أنت فقد انتقلت من عالم البدائية والتوحّش إلى مجتمع الحضارة والتمدّن في أوروك قبل ثلاثة آلاف عام، أما نحن فقد عدنا اليوم إلى عصر البدائية والهمجية والإبادة في غزّة.
