رجال تحت شمس المدوّنة

منذ ١ شهر ٤٣

قطَع رجال غسّان كنفاني مسافات طويلة في الصّحراء من أجل تحسين ظروف عيش عائلاتهم، لكنّهم لم يدقوا الخزان، واختنقوا في روايته "رجال تحت الشمس". ويضعُ مشروع مدونة الأُسرة الرّجال المغاربة تحت أشعة شمس الحقيقة. وإذا أردنا وصفها بدقة، يمكن القول إنّها مدوّنة تقلّل خسائر أطفال الطّلاق، أو يمكن وصفها بأنها "تُحمّل الرّجال تداعيات أكبر عند انفصال الأسرة".

في كل الحالات، النّتيجة واحدة: تعديل جوهري في موازين القوى. فلطالما ظلّ جُلّ إخوتنا الرّجال خارج نار الواقع، شبه بعيدين عن معنى الأُبوّة الحقيقية، التي لا تعني والداً ساهم خلال بضع دقائق في إنتاج كائن ضئيل، ثم أنفق عليه حتى كبر بدوره، وصار مساهماً في إنتاج مزيد من البشر. سواء أكان مساهماً رئيسياً يحمل ويربّي ويرعى كالأم، أم ثانوياً كالأب، والمقياس هنا هو من حيث الجُهد لا القيمة.

ولطالما نظر رجالٌ كثيرون إلى الأبوّة واجباً يؤدّونه بعمليتين اثنتين لا غير؛ الإنجاب والإنفاق. وإذا ما انفصلوا عن الأم، فهي أوْلى بأطفالهم، ما دامت الحضانة لها، وليس للقانون أيّ ثقل، طالما لم يفرض عليهم إلا نفقة يحرص بعضهم على أن تكون شحيحة، ولو بالتّحايل على القانون، حتى لا يتأثر وضعه المادي، ويتيح له إنشاء أسرة جديدة بميزانية مريحة.

مربطُ فرس الاعتراض على المدوّنة هو بيت الأسرة، الذي خصّصته المدوّنة الجديدة للأولاد مع الأم الحاضنة في حالة الطلاق. ما يعني أن الرّجل هو من يخرج من بيت الأسرة، بعد أن كانت الأسرة هي التي تخرج من البيت. إلى أين؟ لا يهم، رغم أن المدوّنة الحالية تفرض استئجار المسكن على حساب الأب، لكنه حلّ مرتجل وغير مضمون.

ورغم أن رد الفعل الموضوعي سينظر إلى الصّورة العامة، التي يشكّل الرجال فيها جزءاً لا كلّاً. إلّا أن العكس هو ما حدث من غضب على مشروع قانون سيغيّر الكثير، فالرجل عادة ما كان يربح في كل الحالات، متزوّجاً أو مطلقاً. حتى في المجتمعات التي ما زالت تمنح الأب حضانة الأولاد، نجد أن رجالاً كثيرين معنيون بالانتصار على الزوجة السابقة بحرمانها من أولادها. رغم أنهم في الغالب يضعونهم بعهدة أقاربهم، وإذا احتفظوا بهم فلا حاجة للحديث عن زوجة الأب، طالما أن المرأة، أماً كانت أو زوجة، هي المسؤول الأول عن الأبناء.

كذلك أبقت المدوّنة الجديدة الحضانة للمرأة رغم زواجها، على عكس ما كان يحدُث. ولأن الأولاد هم الركن الأساس في أي أسرة ولهم الأولوية، صار بيت الزوجية ملكا لهم. وهذا المصدر الرئيس لغضب بعض الرجال، لأن الزوج الثاني للأم قد يستفيد منه. فهل يعقل أن يسكن رجلٌ آخر بيتاً اشتراه الزوج الأول؟ فيما لا يمانع هذا الأخير، في حالة العكس، أن يسكن أولاده في بيت رجل آخر.

هي مسألة "انتصار" مرّة أخرى. الرجل لا يريد أن يخسر بيته بعد الطلاق، فهذا يجعله يبدأ من جديد، مالياً بشكل أساسي، بينما كان يبدأ من جديد بتكوين أسرة أخرى في البيت نفسه الذي أَخرج منه أسرته الأولى. لكن ماذا عن الأولاد؟ هل يصمد أي بيت وهم خارجه؟

تأتي مدوّنة الأسرة لتقدم للأسرة قاعدة قانونية تنظم عملية تأسيسها وتفكّكها، لحماية أفرادها في جميع المراحل، وبالموازنة بين الأضعف والأقوى. خاصة في مجتمع أبوي ذكوري يعمل لصالح الرجل/ الأب. والضّحية عادة هي الأطراف الأخرى؛ الزوجة والأطفال. وآن الأوان لتعديل الكفّة، ليكون ثمن الطلاق مشتركاً بين الجميع، وتتخفّف المرأة من عبءٍ كبير؛ أولاً، العمل للإنفاق على الأولاد، فالنفقة لا تكفي، وثانياً، توفير مسكن لائق غالباً ما لا يوفره الأب. وينجو الأطفال من الطلاق بأقل الخسائر.

كل ما حصلت عليه المرأة في مشروع المدوّنة، على قلته، هو لصالح الأسرة. والأسرة هنا هي الأطفال، فلا أسرة تبقى بعد الطلاق، إن لم تضم أطفالاً ليس عليهم العيش تحت حرارة شمس الحرمان. لعلّ هذه المقتضيات تؤدّي إلى حرص الطرفين على اختيار حكيم للشّركاء، لبداية صحيحة لا تحمل معالم الانشقاق قبل الالتقاء، وتفادي آثار السّيناريوهات التعيسة.

قراءة المقال بالكامل