رحيل فال كيلمر: أداء ممتع في أفلام مهمة

منذ ٥ أيام ٢٣

 

رغم شفائه من سرطان الحلق، المُصاب به عام 2014، يُتوفّى الممثل الأميركي فال كيلمر، في الأول من إبريل/نيسان 2025، بسبب "التهاب رئوي"، كما في بيان ابنته مرسيدس. وفاته هذه حاصلة قبل تسعة أشهرٍ على احتفاله بـ66 عاماً من حياته (مواليد لوس أنجليس، 31 ديسمبر/كانون الأول 1959). ومع أنّ بدايته السينمائية متوافقة مع بلوغه 25 عاماً، في "سرّي للغاية" (1984)، لجيم إبراهامز وديفيد وجيري زوكر، سيُدرك سريعاً شهرة ونجومية، تضعانه في واجهة المشهد السينمائي أعواماً طويلة.

كأي ممثل، له شهرة ونجومية، يؤدّي فال كيلمر أدواراً عادية، بعضها تجاري بحت، وهذا غير مانعٍ تألّقه في أدوارٍ أهمّ وأعمق، تنكشف فيها الشخصيات أمام عالمٍ أو ذاتٍ أو آخر، فإذا به يمنح كلّ شخصية منها (خاصة غير التجارية) ما يُمتّع عيناً تُشاهِد، وتأمّلاً يُساهم هو نفسه في إثارته لدى المُشاهِد.

تمثيله في أفلامٍ منتمية إلى التشويق مثلاً، وبعضها يجمع التجاري بشيءٍ من تساؤلاتٍ عن وقائع عيش وتفاصيل علاقات وانفعالات، غير حائلٍ دون إشهار براعة ساحرة ومؤثّرة، بتأديته شخصية جيم موريسون، في "ذو دورز (The Doors، إنتاج 1991)" لأوليفر ستون، ودوك هوليداي في "تومبستون" (1993) لجورج بان كوسْماتوس، وكريس شيهرْليس في "حرارة (Heat، إنتاج 1995)" لمايكل مان، وفيلام دو كوونينغ في "بولِك" (2000) لإد هاريس.

هذه نماذج قليلة، في لائحة أطول. اختيارها غير عشوائيّ، وغير لاغٍ أدواراً أخرى، تُصبح معه مرايا كاشفة وفاضحة المخبّأ في اجتماع أو بيئة أو فردٍ أو حالة. تحدّيات التمثيل في هذه الأفلام الأربعة عديدة، أوّلها أنّ ثلاث شخصيات بينها حقيقية: الأميركيان موريسون (مغن وشاعر، 1943 ـ 1971) وهوليداي (طبيب أسنان ولاعب ورق وبارع في اللعب بالمسدس، 1851 ـ 1887)، ودو كوونينغ (رسّام هولندي، يحمل الجنسية الأميركية، 1904 ـ 1997). هذا يعني أنّ اشتغالاً معمّقاً يُفترض بكيلمر تحقيقه، بحثاً في سيرة، وتنقيباً في مهنة، ومعاينة تاريخٍ ووقائع، للتمكّن من تحويل المكتوب إلى نبضٍ، يُقنع بحيوية الشخصية الحقيقية، وتفكيرها وانفعالاتها ونظرتها إلى الذات والعالم.

لكنْ، أهكذا يعمل الممثل عادة؟ ذلك أنّ هناك من يكتفي بحِرفية تُبدع في الأداء، لحساسية قوية فيه إزاء التمثيل كفن وصنعة، فيحرّض تمثيله على غوصٍ متأنٍّ في تلك الشخصية وذاك الممثل نفسه أيضاً.

 

 

أمّا الفترات التاريخية، فمختلفة تماماً بين شخصية وأخرى، ما يعني أنّ عالماً شاسعاً من الاختبارات والتبدّلات والمصائر والوقائع تشهدها كلّ شخصية، ما يتطلّب من الممثل جُهداً إبداعياً إضافياً، وإنْ تنفصل إحدى الشخصيات عن ذاك العالم. فجون هنري "دوك" هوليداي "يلمع" اسمه بسبب "التراشق بالنار في أو. ك. كورال" (تومبستون، أريزونا)، تلك المعركة الأشهر في تاريخ غزو الغرب الأميركي (26 أكتوبر/تشرين الأول 1881)، رغم أنّ عدد القتلى ثلاثة فقط. مُشاهدة كيلمر في شخصية هوليداي ممتعة للغاية، لتمكّنه من إخراج قهر صامت، وخيبات ماضية، ونوعٍ من تصالح (أيكون مؤقّتاً؟) مع الذات والعالم، في أعماق ذاك السكّير أيضاً، الذاهب بإرادته إلى الموت، فيأتيه الموت مع الخمرة، لا مع الرصاص.

من "يسمع" الشخصية الأساسية في "ذو دورز"، مُغمضاً عينيه عن "أبواب" ستون، يظنّ لوهلة أنّ صدى جيم موريسون نفسه حاضرٌ. لا مبالغة في هذا، فالمقصود به كامنٌ في بلوغ فال كيلمر لحظة تماهٍ قصوى مع موريسون، كأداء ونبرة على الأقلّ، وكحركة جسد وعينين، ونظرات أيضاً.

كأنّ الممثل، في الفيلمين/الشخصيتين السابقين، يُمهِّد لاختبار دور مختلفٍ تماماً عنهما، رغم أنّ الفن مشتركٌ بين اثنتين منها: فيلام دو كوونينغ. فرغم أنّ فيلم إد هاريس، إخراجاً وتمثيلاً، مهمومٌ بسيرة الفنان التعبيري التجريدي جاكسون بولِك الأميركي (هاريس)، الفنان التعبيري التجريدي الأميركي (1912 ـ 1956)، في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ ومع وفرة ممثلين وممثلات يؤدّون أدوار أناسٍ لهم/لهنّ معه علاقات مختلفة؛ وإلى جانب عيشه حياة مليئة بالسلبيات والتناقضات، وبالإدمان على الكحول، وبصعوبات جمّة في علاقته بزوجته؛ يُظهر كيلمر شيئاً جميلاً من مهارة تمثيلٍ، تؤهّله لمرافقة "حشدٍ" من زملاء المهنة وزميلاتها، في عصرٍ يتخبّط بالخروج من كارثة عالمية، تؤثّر بالداخل الأميركي، ثقافياً وفنياً تحديداً.

الشخصية الرابعة في الأفلام تلك، المختارة لمقالة في رحيله، غير حقيقية: فكريس شيهرْليس صديقٌ لنيل ماكْكولي (روبرت دي نيرو) ومايكل تْشيريتو (توم سيزيمور) وتْريخو (داني تْريخو)، ومعاً يسرقون مصارف عدّة. في هذا، يُؤكّد كيلمر أنّ التمثيل الجميل والجاذب والممتع يُمكن أنْ ينبثق من احترافٍ مهني فقط، إذ لا داعي لتنقيب وتعمّق وبحث واجتهاد. احترافٌ يُنتج أداء متماسكاً في اشتغاله، رغم أنّ الشخصية نفسها غير متماسكة أبداً، ولعلّ نجاتها وحدها من القتل، في ختام المطاردة الشهيرة، دافعٌ إلى مصالحة مع الذات، كما مع زوجته تشارلين (آشلي جود).

أمّا الوثائقي الوحيد له كشخصية أساسية، "فال" (2021) لتينغ بو وليو سكوت، فكفيلٌ بمنح المهتم/المهتمة منافذ إلى سيرته وتفكيره ورغباته وحكايته، علماً أنّ هذا النوع من الوثائقيات/السير الذاتية متأتٍ مما تريده الشخصية الأساسية، التي تتحكّم بما يُقال وما لا يُقال.

38 عاماً من اشتغال متنوّع الأشكال والمضامين، تصنع سيرة مهنية تستحق قراءات نقدية، فأفلامٌ عدّة له مُثيرة لانتباه واهتمام، والمقالة هذه وداعٌ لا أكثر.

قراءة المقال بالكامل