يشكّل رفع العقوبات الأميركية عن سورية تحوّلاً يأتي في المقام الثاني من حيث الأهمية بعد إسقاط نظام بشّار الأسد، في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024. وقبل كلّ شيء، يضاعف من حجم المسؤولية الملقاة على الإدارة الجديدة، في نقل البلد من تركة الأبد الأسدي إلى زمن الحرية. إنها خطوة البداية في خروج سورية من دائرة العزلة الدولية، واستعادة موقعها ولعب دورها الأساس وفق القانون الدولي، بعد أن حصلت على ثقةٍ عربيةٍ دولية، تسهّل أمامها الصعاب وتساعدها في مواجهة التحديات الكبيرة.
نجحت الإدارة السورية الجديدة في نيل ثقة أغلبية السوريين، وهو ما أهّلها لتقديم نفسها عربياً ودولياً، وأن تحظى بفرصة رفع العقوبات، التي ساهم فيها الجهد الكبير الذي بذلته على نحو خاصّ السعودية وولي عهدها محمّد بن سلمان، ودولة قطر وأميرها الشيخ تميم بن حمد، الحاكم العربي الأول الذي زار دمشق، ما ترك أثراً طيّباً في نفوس السوريين، في لحظة كانوا فيها بأمسّ الحاجة إلى من يقف في جانبهم، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي تحمّلت بلاده عبء قرابة أربعة ملايين مهجّر سوري أكثر من عقد، وكانت عوناً رئيساً للسوريين في محنتهم، ومساعداً لهم في استمرار الثورة. ولا يفوتنا التنويه إلى دور دول أخرى، عربية وأوروبية، وخاصّة الأردن وفرنسا وبريطانيا.
كلّ من ساند الشعب السوري خلال أعوام المأساة والتهجير، وساهم في رفع العقوبات، شريكٌ أساس في الفرصة الجديدة التي حظيت بها سورية على هامش زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الرياض، حيث استُقبل الرئيس السوري أحمد الشرع، ما يوفّر للإدارة السورية شرعيةً دوليةً، ويُعزّز من موقفها في وجه الاعتداءات الإسرائيلية، واحتلال أراضٍ سورية، وتدمير المقدرات العسكرية، وخرق اتفاقات فصل القوات لعام 1974، ووضع حدّ لمحاولات التدخّل في الشؤون الداخلية السورية، وتشجيع نزعات التقسيم، وممارسة الضغوط لجرّ دمشق إلى توقيع اتفاقات إذعان.
صار في وسع الإدارة الجديدة أن تتصرّف بارتياح، بعد أن تحرّرت من ضغط العقوبات، وأن تباشر خطواتٍ فعليةً من أجل قيادة عملية تحوّل تعتمد على إشراك الكفاءات السورية السياسية والثقافية والعسكرية والاقتصادية في الحكم، وتحصين الجبهة الداخلية بإطلاق هيئة العدالة الانتقالية، التي تتولّى محاسبة مجرمي العهد الأسدي، وإنصاف الضحايا، وإغلاق الملفّات، التي لا تزال تشكّل ألغاماً مؤقّتةً يمكن أن تفجّر الوضع الداخلي.
يلقي رفع العقوبات على الإدارة السورية مسؤوليات كبيرة، بقدر ما يوفّر لها فرصةً ذهبيةً لا تتكرّر، يتوجّب عليها التقاطها وعدم التفريط بها، وأن تحسن التصرّف حيال الإجماع الذي أنتج قرارَ رفع العقوبات، وتُعيد ضبط خطواتها في ضوء ذلك، وهذا يتطلّب قبل كلّ شيء إجراء مراجعة سريعة لتجاوز بعض الأخطاء التي نجمت في الأشهر الماضية من الضغط الكبير، وبسبب التركة الكارثية الكبيرة التي خلّفها نظام الأسدَين، لجهة تدمير الاقتصاد الوطني، ونهب مقدرات البلد، ونقل أمواله إلى الخارج، وتقسيم المجتمع طائفياً، وإهمال أجزاءٍ واسعةٍ منه، وتركها تواجه مصيراً مجهولاً تحت سيطرة قوى الأمر الواقع، كما هو الحال في الجزيرة السورية، التي تشكّل ثلث مساحة سورية، والقسم الأكبر من ثرواتها من النفط والغاز والقمح والقطن.
سيعتمد معيار النجاح في المرحلة المقبلة على مقدرة الإدارة في استيعاب أهمية الانفتاح العربي والدولي عليها، وما لم تبادر إلى وضع استراتيجية نهوض فعلية بالبلد، سيبقى إنجاز رفع العقوبات يُراوح مكانه، لن تقدّم الدول مساعدتها من دون أن تلحظ تقدّماً فعلياً في أرض الواقع، والأمر نفسه ينسحب على الاستثمارات السورية وغير السورية، التي تحتاج إلى بيئة سياسية وأمنية مستقرّة.
