رنين "كسر القيد" وصداه في الشأن الفلسطيني الداخلي

منذ ٢ شهور ٤٨

يستعد الفلسطينيون من جديد لصفقة "كسر قيدٍ" أخرى ستعيد لهم بعضًا من أبنائهم الأسرى المغيبين لسنواتٍ وعقود في سجون الاحتلال الإسرائيلي، ورغم أن صفقات التبادل ليست طارئةً على الفكر والتاريخ الفلسطيني، إلّا أن الصفقة الحالية يصح وصفها بـ"الصفقة الاستثنائية"، في ظروفها وتوقيتها ومخرجاتها، وأثرها على الشأن الفلسطيني الداخلي. فمن ناحيةٍ هي جزءٌ من كلٍّ، تسليم الأسرى الإسرائيليين مقابل حزمةٍ من الإنجازات، في مقدمتها إيقاف إطلاق النار في قطاع غزّة، ومن بينها تحرير الآلاف من الأسرى الفلسطينيين، 1300 أسيرٍ في المرحلة الأولى فقط. ومن ناحيةٍ أخرى فإنها تأتي في وقتٍ تداخلت فيه العناصر والمركبات، بين حربٍ فقدت مضمونها ولم تفقد وحشيتها، وشعب مثخنٍ بألوف الشهداء والجرحى، ومهجرٍ بين الخيمة والمأوى، فاقدٍ لقمة عيشه ومصدر عمله، ومحيطٍ إقليمي وعربي يستعد، في ما يبدو، لصفقة قرنٍ أخرى، تطمح، بين طياتها، إلى تحقيق ما عجزت الحرب عن تحقيقه، حصار المقاومة وتصفيتها.

بدأ تأثير الصفقة على الشأن الفلسطيني الداخلي منذ لحظة إعلانها الأولى، عبر الفرح والابتهاج بصلابة المقاومة، وقدرتها على تحقيق أهدافها، رغم حمم ضغط الاحتلال الإسرائيلي عسكريًا، لكن هذا التأثير الآني، مع مرور الوقت وتنفيذ الصفقة، سيتخذ أبعادًا أخرى. فخروج الآلاف من الأسرى، الذين شهدت لهم ميادين المقاومة سابقًا، وصُقلت تجربتهم بالاشتباك النفسي مع محتلهم خلال سنوات الأسر، سيضخ المزيد من الدماء في تيار المقاومة الفلسطينية، وسيعيد تكوين طبقةٍ جديدةٍ من قيادات العمل السياسي والعسكري المقاوم، حتّى لو أُبعد معظمهم إلى خارج فلسطين المحتلة، إذ أثبت "طوفان الأقصى"، أنّ مساهمة الأسرى السابقين، المحرَرين سابقًا والمبعدين إلى الخارج، في إسناد المقاومة عسكريًا وسياسيًا وماديًا قيمةٌ ودائمةٌ ومتواصلةٌ، حتّى لو كانوا خارج ميادين الالتحام المباشر.

من لم يدفعه الطوفان بعنفوانه، والمجازر بوحشيتها للوحدة والتآلف، لن توحده الصفقة بطبيعة الحال

على الصعيد الاجتماعي، سيعيد تحرير الأسرى لم شمل آلاف العائلات مع أحبابهم وأبنائهم، وسينهي جولاتٍ طويلةً من الألم لهم، على طريق زيارات السجون ومواعيد الصليب الأحمر، وإذا ما تكللت الصفقة بإعادة جثامين الشهداء المحتجزين لدى قوات الاحتلال، فسيُتاح للآباء المكلومين، والأمهات الثكالى حفر قبرٍ ووضع شاهدٍ له يختمون عنده درب آلامهم.

أما بالنسبة للمكونات السياسية الفلسطينية، فمما لا شك فيه أنّ الصفقة ستمثّل رافعةً أخرى لفصائل المقاومة في الضفّة الغربية وقطاع غزّة على حدٍ سواء، وستزيد من إنهاك منظومة التنسيق الأمني، واهتراء موقعها الشعبي، لا سيّما مع ما يرد من تسامي مفاوضي المقاومة على المحددات الحزبية، واشتراطٍ تنوعٍ حزبيٍ وجغرافيٍ في قوائم الأسرى المحررين، بما يُعزز من لُحمة نسيج الفلسطينيين المجتمعي في جميع أماكن تواجدهم، ويوحدهم خلف خطٍ يعدُ بالمنجزات، ويقدمها مهما كانت التضحيات.

 أما المستوى الرسمي، فمن غير المتوقع أن تُضيف الصفقة، رغم تأثيرها الكبير، غرزةً تلم فتق الانقسام، وشتات النظام السياسي، فخرْق الانفصال بين شطري الوطن ومكوناته اتسع على الراتق، ومن لم يدفعه الطوفان بعنفوانه، والمجازر بوحشيتها للوحدة والتآلف، لن توحده الصفقة بطبيعة الحال. لا سيّما في ظلّ التصريحات الصادرة عن السلطة ومسؤوليها منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول حتّى اليوم، التي ما فتئت تُهاجم المقاومة وأدواتها، ما يجعل من المستبعد على الخطاب الذي حمّل المقاومة طوال 15 شهرًا مسؤولية الدمار، أن يثني عليها اليوم في إيقاف الحرب وكسر قيد آلاف الأسرى، وتحسين ظروف آلافٍ آخرين!

بالمحصلة، كُسر القيد مرةً أخرى، لن تكون الأخيرة، لكن لرنينه هذه المرّة أصداءٌ ستُسمع داخل فلسطين وخارجها، بعضها سيُسمع في لحظتها، وسيُكلل بالزغاريد والأهازيج، وبعضها الآخر سيحتاج إلى مزيدٍ من الوقت لفهم ترنيماته، ولكثيرٍ من الحنكة للخروج من عنق دهاليز السياسة من دون خسائر تُضاف إلى أوجاع الحرب وآثارها المدمرة.

قراءة المقال بالكامل