لا أطلال يُطبق عليها الصمت، ولا عمارات شاهقة ترمق خراب المدن بعد الحرب، بل التفاتٌ إلى الكائن الأرَقِّ؛ الزهرة. هذه الانتقالة ممّا هو معروف عنه على مستوى الموضوعات، إلى أُخرى تبدو مختلفة، إلى حدٍّ ما، هي ما يشتغل عليه الفنّان الألماني أنسيلم كيفر (1945) في معرضه الجديد "أخبرني أين الزهور؟"، الذي افتُتح في السابع من آذار/ مارس الجاري، بمُتحفَين من متاحف أمستردام: "فان غوخ" و"ستيديليك"، ويتواصل حتى التاسع من حزيران/ يونيو المُقبل.
يضيء المعرض مُنجَز الفنّان الثمانيني من خلال تقفّي أثر فينسنت فان غوخ في أعماله، بما يخلق حوارية خفيّة بينهما، ففي سنّ السابعة عشرة، حصل كيفر على منحة سفر واختار اتّباع الطريق الذي اتّخذه فان غوخ من هولندا إلى بلجيكا وفرنسا، ومنذ ذلك الحين ظلّ الفنّان الهولندي (1853 - 1890) وعمله مصدر إلهام حيوياً بالنسبة له. وهنا لا يفوّت المنظّمون فرصة إتاحة سبع لوحات من أعمال فان غوخ الرئيسية، منها "حقل القمح مع الغربان" (1890)، فضلاً عن تجهيزات لم يسبق عرضها لكيفر.
يجمع خامات عديدة كالطلاء والطين وقطع الثياب وبتلات الورد
أمّا مجموعة "ستيديليك"، فتُركّز على الدور المحوري الذي لعبته هذه المؤسسة في مسيرة كيفر المِهنية، حيث اقتنى هذا المتحف لوحتَي "الغرفة الداخلية" (1981) و"رمل ماركيشر" (1982) في بداية مسيرة الفنّان، وأقام معرضاً فردياً لأعماله عام 1986. وها هو اليوم يُتيح تركيبَين فنيّين جديدين: "أخبرني أين الزهور؟"، الذي يحمل المعرض عنوانه ويغطّي كامل محيط الدَّرج التاريخي للمتحف، و"صعودٌ، صعود، فهبوط"، الذي تتدلّى منه صُور فوتوغرافية من أرشيف فنّانين عديدين شبيهة بأقراص الأفلام.
يجمع التركيب الجديد والضخم (بطول 24 متراً) بين خامات عديدة كالطِّلاء الذهبي والطين وقطع الثياب وبتلات الورد المجفّفة، ويرمز إلى دورة الحياة وتواشُج الموت مع مصير البشرية، كما تُشير الزهور المذكورة في عنوان المعرض إلى سلسلة لوحات "عبّاد الشمس" (1889) لفان غوخ، في حين استلهم العنوان ذاته من أغنية ثورية صدرت عام 1955، "أين ذهبت كلّ الزهور؟"، للمغنّي الشعبي والناشط الأميركي بيت سيغر (1919 - 2014).
تُعيدنا هذه المعطيات إلى دائرة السؤال الأول: هل تخلّى الفنّان بالفعل عن موضوعاته الأثيرة كالجدران والأطلال والأقبية ذات البُعد الجِلْف؟ أمّ أن الزهور، هنا، مجرّد مراوغة تأويلية لا يريد أن يُثبت من خلالها، وبشكل مباشر، أنّ الخراب ما زال مُطبِقاً، بل يعمل على إتاحة شقوق فيه، مُفسحاً الطريق للزهور لتقول كلمتها بوجه واقع قاس؟
وُلِد أنسيلم كيفر في مدينة دوناوشينغن الألمانية، خلال الأشهر الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، حيث قضى طفولته وسط أنقاض ألمانيا بعد الحرب. كان والده الضابط القاسي معلّمه الأول الذي قاده إلى الرسم، وعرّفه على الفنانين الذين نبذهم الحزب النازي مثل ماكس بكمان، وبول كلي، وأوتو ديكس، ومارغ مول. وفي أواخر الستينيات، كان من أوائل الفنانين الألمان الذين تناولوا تاريخ بلادهم المضطرب، في أعمال راوحت موضوعاتها بين التاريخ والأساطير والفلسفة والأدب والكيمياء والمناظر الطبيعية.
