تُشكِّل أسئلة الهوية والانتماء للأرض محور رواية "سادن المحرقة"، للروائي والباحث والأسير الفلسطيني باسم خندقجي، الصادرة حديثاً عن "دار الآداب" في بيروت، والتي تُعتَبر الجزء الثاني من رواية "قناع بلون السماء"، الفائزة بـ"الجائزة العالمية للرواية العربية" (المعروفة بـ"البوكر") العام الماضي.
يُكمل خندقجي في هذه الرواية رحلة البحث في معنى الهويَّة، بين أن تكون انتماءً إلى أرض الأجداد، أو أن تكون مجرَّد بطاقة تُعرِّف بحاملها وتُعطي لوجوده مشروعيَّةً فوق الأرض التي يعيش عليها. فبعد أن عثر نور الشهدي على هويَّة المستوطن الإسرائيلي، أور شابيرا، في جيب معطفٍ اشتراه من محلٍّ للملابس المستعملة، في رواية "قناع بلون السماء"، واستخدمها بهدف "إدراك حقوقكَ التي اخترعتَها فوق هذه الأرض"، و"التحرُّك في البلاد التي سلبتمونا إياها"، كما يتوجَّه نور لأور في حوارٍ داخلي مع الآخر الذي تقمَّصه "كي لا يصير مثله"، و"كي يتحرَّر منه"، بحسب ما يقول، يَعبُر باسم خندقجي إلى الجانب الآخر ليجعل من أور شابيرا الشخصيَّة الرئيسة والراوي في روايته الجديدة، ويجعل مِن العثور على مَن استخدم هويَّته وانتحل شخصيَّته هاجسه، بعد أن كشفت له الأمر أيالا شرعابي، الباحثة الآثاريَّة التي كانت تُنقِّب في موقعٍ قريبٍ من حيث يسكن في القدس المحتلَّة، والتي عملت مع أور الزائف في موقع تل مجدُّو الأثري شمالي فلسطين في الجزء الأول، لتُشكِّل بذلك صلة وصلٍ بين الروايتَيْن.
يسلط الضوء على مجتمع استعماري عسكريّ تنخره العنصرية
بالطبع ليس أور وحده "سادن المحرقة" التي أضرمها الصهاينة في فلسطين منذ نحو تسعين عاماً، وأجَّجتها عصاباتهم في نكبة عام 1948 من خلال المجازر والتهجير، لكنَّ الكاتب الفلسطيني الذي يعرف عدوَّه من خلال تعامله اليومي مع السجَّان الصهيوني في حبسه، جعل من الجندي السابق في لواء المظليّين، أحد ألوية النخبة في جيش الاحتلال، صورة عن مجتمع كامل.
فأُور هو حفيد أجدادٍ نجوا من المحرقة النازيَّة في "أوشفيتز"، وهاجروا بعدها إلى "أرض الميعاد" التي لن يمسَّهم فيها أي أذى أبداً. أبناء أجداده انخرطوا في صفوف الجيش الذي سيضمن ألَّا تتكرر المحرقة من جديد، حتى إنَّ خاله قُتِل في حرب "يوم الغفران" (التسمية الصهيونية لحرب السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 1973)، ووالده كان مصمِّماً على التحاق ابنَيْه بالجيش الإسرائيلي رغم مخاوف أمِّهما. أخوه جدعون قُتِل خلال اقتحام قوَّة صهيونية لمخيَّمٍ في رام الله (حيث يعيش نور الشهدي). أما هو نفسه، أور شابيرا الذي شارك في عدَّة حروب، فيعاني من اضطراب ما بعد الصدمة، ويتلقَّى علاجه عند طبيبة نفسيَّة، ويُدخِّن الحشيش، بعد الأهوال التي شهدها بشكلٍ خاصٍّ في حرب لبنان عام 2006، حيث كان الناجي الوحيد من بين أفراد مجموعة تعرَّضت لكمينٍ من مقاتلي حزب الله، في قرية بنت جبيل، وفي العدوان الذي شُنَّ على غزَّة في الفترة بين أواخر عام 2008 وأوائل عام 2009، وفيه تعرَّف إلى قصة طفلة صغيرة قُتِلَت في مجزرة ارتُكِبَت بحقّ عائلتها، حيث تظلُّ هذه الطفلة تلاحقه وتظهر أمامه في مختلف مراحل الرواية، مُذكِّرةً إيَّاه بما اقترفه مع رفاقه، ومُفاقمة بذلك مرضه النفسيّ.
لا يتوقَّف تشريح خندقجي للمجتمع الصهيوني عند حدود الحروب وتداعياتها على من يشاركون فيها أو يشهدونها، وهم كل الصهاينة بما أنَّهم بمثابة جنود احتياط، يحقُّ لهم حمل السلاح عندما يرون حاجة إلى ذلك، بل يمتدُّ ذلك إلى الحياة الاجتماعية المدنيَّة بين هذه الحروب، إذ يُضيء على ما يتضمَّنه هذا المجتمع من أمراضٍ وتعقيدات، تتخطَّى ما يوجد في مجتمعاتٍ "طبيعيَّة" إلى أُخرى خاصَّة بهذا المجتمع "المصطنع"؛ فالتمييز فيه لا يقتصر على الآخر العربي المختلف على أساسٍ ديني وقوميّ، بل يشمل التمييز العِرقي بين اليهود أنفسهم. الأشكناز القادمون من أوروبا، الذين ينتمي إليهم أور، يُعاملون اليهود الشرقيين، الذين تنتمي إليهم أيالا شرعابي وكذلك عومر، سكرتير طبيبته النفسيَّة الأشكنازيَّة هداس ستورنبرغ، بتعالٍ وفوقيَّة، بل بقرفٍ أحياناً.
محرقة أضرمها الصهاينة بحقّ الفلسطينيين منذ ما قبل 1948
كما أنَّ أُمَّ أور تُحمِّل زوجها مسؤوليَّة مقتل ابنهما، شقيق أور، فتنفر منه وتخونه مع زميلها الطبيب في عيادتهما المشتركة، وهو حدثٌ يشهده أور خلال رحلة علاجه النفسيّ، فيُسبِّب له رضَّاً وانتكاسة. كما أنَّ حبيبته تقرّر تركه وترتبط بحبيبة، بعد أن "اكتشفت" مثليَّتها، أما في أحلامه المنبثقة من واقعه والمشابهة له في تشوُّهه فيراها في وضعيات جنسيَّة مع أخيه الميت. وفي النسخة الكابوسيَّة من هذه الأحلام، يسمع أور كلماتٍ بلغة غير العبريَّة، يدرك أنَّها العربية، ما يدفعه إلى تعلُّم هذه اللغة عن طريق مريم، الفتاة الفلسطينية وطالبة الدراسات العليا، التي تلتقيه لتعليمه، من خلال تبادل الأحاديث حول مختلف الأوضاع الراهنة، كما تعطيه كتباً ليقرأها، وتحديداً تلك التي يتوفَّر منها نسختان عربيَّة وعبريَّة، ومنها رواية "باب الشمس" لإلياس خوري، التي يتعرَّف من خلالها إلى النكبة التي أنزلها أجداده بالشعب الفلسطينيّ.
يُفضِّل أور، مثل المهزومين والضعفاء جميعاً، التهرُّب من المواجهة المباشرة. نراه، أمام صعوبات الحكي عن أزماته، التي تواجهه في عيادة طبيبته النفسيَّة، يمتثل لاقتراحها الكتابة عمَّا يعتمل في صدره ويخطر في باله، وهو يكتب ذلك مستخدماً أسلوب الراوي العليم، لا بضمير المتكلِّم الذي نقرأ من خلاله ما يجري من أحداث الرواية في الزمن الحاضر. كما أنَّه يقول لأبيه القابع في غيبوبته على سرير المستشفى ما لا يقوله لغيره، ويتبادل مع نور الشهدي المُتخيَّل حواراتٍ طويلة، لكنَّه يتهرَّب من اللقاء به، رغم اتفاقهما على موعدٍ خلال حفل إطلاق الرواية التي كان يعمل عليها هذا الأخير في رواية "قناع بلون السماء"، وذلك بعد نجاحه بالعثور عليه بمساعدة مريم التي عرفته، وبعد تعرُّفه إلى أفكاره من خلال حلقات "البودكاست" الذي يُعِدُّه ويبثُّه.
هروب أور هذا من اللقاء المباشر بنور، هو هروب مغتصب الحقِّ من صاحب هذا الحقّ، هروب حامل هويَّة الأرض المسروقة من صاحب الأرض، هروب الضعيف مُضرِم المحرقة من القوي الذي يرفض أن يكون ضحيَّة لهذه المحرقة. قوة نور، الذي يغيب عن الحضور المباشر في هذه الرواية إلَّا من خلال الأفكار التي يطرحها في حلقات "البودكاست"، هي القوة نفسُها التي جعلت الحجر يقف في وجه الدبابة، وتجعل الصواريخ المُصنَّعة محليَّاً تقف في وجه الترسانة العسكريَّة التي تشترك كلُّ دول الغرب في تطويرها وتعظيم فتكها.
* كاتب من سورية
