ستّ حكومات في سنوات سعيّد الست

منذ ١ يوم ٢٣

أفاق التونسيين فجراً، قبل أيام، على خبر إقالة رئيس الحكومة كمال المدوري، وهو الذي جرى تعيينه قبل سبعة اشهر، ولم يتوقعوا هذه الإقالة غداة احتفائهم بذكرى عيد الاستقلال. ... تنقل صفحة رئاسة الجمهورية، في "فيسبوك"، وهي النافذة الوحيدة التي منها يخاطب الرئيس قيس سعيّد شعبه، ما يفيد بأن هناك بوناً شاسعاً بين مؤسستي السلطة التنفيذية، رئاستي الجمهورية والحكومة. لا يدري التونسيون تماماً بدايته ولا قضاياه ومواضيعه، إنما وردت جملة من الإشارات في بيان الرئاسة هذا، "أهمية تحقيق الانسجام الحكومي وتحقيق مصالح الشعب التونسي"، ولكن الأمر يلتبس عند التونسيين، حين يطلعون على فحوى ما نقلته التلفزة الوطنية وقنوات أخرى من تصريح الرئيس سعيّد إثر اجتماع مجلس الأمن القومي الذي أشرف عليه بعد سويعاتٍ من الإقالة، وحضره المعني بالأمر، وكبار قادة المؤسّستين، العسكرية والأمنية، وإنْ في صيغةٍ مبهمة "أنهم لم يجدوا إلى رئاسة الدولة طريقاً أو منفذاً، فحوّلت اللوبيات وأعوانها وجهتهم إلى القصبة، حتى تكون لهم مُربّعاً ومرتعاً، متناسين أن الحكومة أو الوزارة الأولى أو كتابة الدولة للرئاسة، كما كانت تُسمّى، مهمّتها مساعدة رئيس الدولة على القيام بوظيفته التنفيذية. وقد أصيب بعضهم بداء عضال، لا بد من وضع حد له". ومع ذلك، لا تُعرف حقيقة إن كانت هذه اللوبيات تشكّلت من رجال الأعمال أم من رجال السياسة، غير أن الأرجح أن يكونوا من دوائر نافذة هذا في صورة صحّة التشخيص أصلاً.

لا يُعرف عن رئيس الحكومة السابق أي انتماء سياسي، ولا أحد استطاع أن يعثر على تدوينةٍ أو ما شابهها تفيد بأن الرجل كانت له مواقف أو آراء مما جرى في البلاد أزيد من 15 سنة تقريباً. لم يبرز الرجل في كامل هذه المرحلة وجه تكنوقراط بارزاً، رغم حدّة القضايا التي احتاجت فيها البلاد إلى خبرة هؤلاء أو أصواتهم. كان الرجل يتدرّج في صمت بمساره المهني، فهو خرّيج مدرسة القومية للإدارة، إذ زاول فيها ما يساوي المرحلة الثالثة في علوم الإدارة، ونال الدكتوراه في العلاقات الدولية، وارتقى لاحقاً في مساره المهني، إذ عُيّن مديراً عاماً في الصندوق الوطني للتقاعد، ثم مديراً عاماً للصندوق الوطني للتأمين على المرض. تُعرف عن الرجل خبرته في أنظمة الحيطة الاجتماعية ومختلف سياسات الرعاية الاجتماعية، وهي الملفات والإدارات التي تعود بالنظر إلى إشراف وزارة الشؤون الاجتماعية، علما أن هذا التراث قد أسّسه في سبعينات القرن الفارط "أب" أنظمة الحماية الاجتماعية ومختلف الصناديق والإدارات الخاصة بذلك، رئيس الجمهورية السابق والخبير الدولي المرموق محمد الناصر.

لا يُعرف عن رئيس الحكومة السابق أي انتماء سياسي، ولا أحد استطاع أن يعثر على تدوينةٍ أو ما شابهها تفيد بأن الرجل كانت له مواقف أو آراء مما جرى في البلاد أزيد من 15 سنة تقريباً

دخل المدوري في خلاف حادّ مع وزيره العضد الأيمن للرئيس سعيّد، الوزير السابق مالك الزاهي الذي عمد إلى إقالته وتجميد مهامه عدة أشهر، مكث فيها الرجل في بيته بعيداً عن مباشرة أي مهمّة، غير أن الأقدار تنصفه، إذ أُقيل الوزير الزاهي، وتعيين مرؤوسه عوضاً عنه، وهذه سنّة جرت عليها التعيينات في تونس منذ 2019، غير أن الرجل لم يمكث طويلاً في هذا المنصب، حتى عُيّن رئيساً للحكومة منذ مايو/أيار من السنة الفارطة، ولا أحد يعرف السياقات التي تم فيها هذا التعيين، ولا مبرّرات ذلك سوى رغبة الرئيس التي تظل لدى الرأي العام عسيرة على المعرفة والفهم.

استهلكت عهدة الرئيس سعيّد (ما يناهز ست سنوات) ست رؤساء حكومات، أولهم إلياس الفخفاخ، وصولاً إلى تعيين سلوى الزنزري التي تدرّجت من موظفةٍ رفيعة في وزارة التجهيز والإسكان التي تولّتها لاحقاً قبل أن تُسمّى، أخيراً، رئيسة الحكومة. ولا يعرف عنها أي نشاط سياسي، وكل ما يعرف عنها أن لها خبرات مهنيّة في مجالها، وهي المرأة الثانية التي يعهد اليها الرئيس سعيّد رئاسة الحكومة.

ليس للرئيس سعيّد أتباع أوفياء، وهو قادر، في أي لحظة، على استبعادهم، وملاحقتهم إن لزم قضائياً

وبعيداً عن التفاصيل المعقدة في هذه التعيينات التي لا يفهم لها التونسيون سبباً، ولا تخضع إلى منطق سوى رغبة الرئيس، فإن جملة من الاستنتاجات يمكن استخلاصها لعل أهمها: منح دستور 2022 الذي صدر في ولاية الرئيس سعيّد كل الصلاحيات المطلقة في تعيين الموظفين الكبار في الأجهزة الإدارية والمؤسّسات العمومية، وهي صلاحية حصرية لرئيس الجمهورية، بعد أن كان دستور الثورة في 2014 يمنحها لرئيس الحكومة، فيما منح دستور 2022 سلطات واسعة في هذا المجال للرئيس، وهو رأس السلطة التنفيذية الوحيد. ويبدو أن سعيّد كان حريصاً على وضع حد "لسلطة تنفيذية برأسين"، يتهمها ضمناً بتأزيم وضع البلاد وتعطيل القرارات إبان عشرية الانتقال. يستحوذ الرئيس على كل السلطات التنفيذية، وقد ذكر في جلسة مجلس الأمن القومي أن مهمّة رئيس الحكومة تمكن في مساعدة رئيس الجمهورية في آداء السلطة التنفيذية. إنه لا يرغب في أن ينازعه أحد في السلطة التنفيذية هذه، ولذلك انتبه مراقبون عديدون إلى أن رئيسة الحكومة الحالية، غداة ترؤسها مجلس الوزراء قد تخلت عن تلك اللافتة التي كانت توضع أمام مكتبها الدالة على أنها "رئيس الحكومة"، والأرجح أنه ينظر إليها وكأنها وزيرٌ أول.

ويبدو واضحاً أن الرئيس على خلاف الصورة الظاهرة، ليس له أتباع أوفياء، وهو قادر، في أي لحظة، على استبعادهم، وملاحقتهم إن لزم الأمر قضائياً، إن تبين له أنهم"حادوا". لقد استغنى عن حوارييه ومقرّبيه الأكثر ولاء له: وزراء الداخلية كمال الفقيه والشؤون الاجتماعية مالك الزاهي والمالية... إلخ.

هل تحتاج تونس رؤساء حكومات؟ ما هي الملامح الفضلى لهم في السياق الحالي: سياسيون أم تكنوقراط؟ أم تحتاج البلاد تغيير سياسات؟ أسئلة لا تستطيع حتى الدوائر المقرّبة من الرئيس الإجابة عنها، لأنها أسئلة قد غدت شبه محظورة من النقاش العام.

قراءة المقال بالكامل