سطوة الذاكرة... ووجعها

منذ ٢ أيام ٣٠

الذاكرة تلكَ النعمة والنقمة اللتان ترافقان المرء في كلّ خطوة يخطوها- تكبّله حيناً بأثقال الماضي، وتحرّره أحياناً في عوالم لا حدود لها من الحنين والخيال. صندوق أسراره، وسجنه الذي لا يرى قضبانه، ومركب نجاته حين تضيق به الحياة. الذاكرة ليست مجرّد سجلٍّ جامدٍ للأحداث، بل هي المرايا التي تعيد تشكيل الزمن، والمسرح الذي يُعاد فيه تمثيل المَشاهد بكلّ تفاصيلها، بالألم ذاته، بالفرح ذاته، وبذلك الحنين الذي يجعل الماضي أكثر بريقاً ممّا كان عليه.

لا أحد يفلت من سطوة ذاكرته، ولا أحد يستطيع أن يطفئها متى أراد، فهي تتسلّل إلينا بلا استئذان، تفتح أبوابها متى شاءت، وتغلقها متى رغبت. قد نظنّ أنّنا نسيطر عليها، لكنّ الحقيقة أنّنا أسرى في دهاليزها. نفتح كتاب الذكريات فنجد أنفسنا محاصرين داخل صفحاته، نعيد قراءة المَشاهد ذاتها، نعيش الآلام القديمة كأنّها لم تبرحنا، ونشعر بنبض القلوب التي رحلت وكأنّها ما زالت هنا، تنبض بجوارنا.

كم مرّة حاولنا الهروب من الذكريات فلم نجد مهرباً؟ كم مرّة ظننّا أنّنا دفنّاها عميقاً في زوايا النسيان، لكنّها عادت لتطلّ علينا في لحظة غفلة، لتوقظ فينا ما حسبناه قد انطفأ؟

لا تموت، بل تبقى ساكنةً في أعماقنا، تنتظر إشارةً صغيرةً، مشهداً عابراً، رائحةً قديمةً، أغنيةً منسيةً، لتنهض فجأة وتجرّنا معها إلى حيث لا نريد. في تلك اللحظات، ندرك أنها ليست مجرّد ماضٍ، بل هي حاضر مستتر، جزء لا يتجزّأ من هُويَّتنا، من أحلامنا ومن مخاوفنا.

لكن هل الذاكرة لعنة أم نعمة؟ هل هي جحيم الإنسان الذي يُبقيه رهين ماضيه، أم هي وسيلته الوحيدة للخلود؟ إنها مزيج من الاثنين، وجهان لعملة واحدة. بقدر ما تمنحه حرّية السفر عبر الزمن، تحاصره داخل أسوارها، تسجنه في مشاهد قد لا يريد تذكّرها، وتعيد إليه وجوهاً رحلت، لكنّه لا يستطيع نسيانها. هي زادُه في وحدته، لكنّها أيضاً سجّانه الذي يحرمه الحاضر.

هناك ذكريات تُبقي الإنسان حيّاً، تعطيه سبباً ليواصل، وهناك أخرى تستنزف روحه، تجعله سجين الألم والندم. كم من شخص ظلّ يعيش في ماضٍ انتهى، يعيد تكراره في ذهنه كأنّه مشهد سينمائي لا يتوقّف، يبحث عن إجابات لن تأتي، عن فرصة ثانية لن تُمنح، عن كلمة لم تُقَل في وقتها، عن وداع كان يجب أن يكون أكثر دفئاً! كم من عاشق لم يستطع أن يُحبّ مرّة أخرى لأن ذاكرته تأبى أن تخون حُبّه الأول! وكم من حالم توقّف عن الحلم لأن ذاكرته تحمل خيبات أكثر ممّا يستطيع قلبه أن يتحمل.

لكن في المقابل، كم من إنسان وجد في ذاكرته وطناً، بيتاً يعود إليه كلّما ضاقت به الحياة! كم من مهاجر حمل بلاده في قلبه لأن الذاكرة رفضت أن تتركه وحيداً في المنافي! كم من شاعر أخرج من ذاكرته أجمل قصائده، وكم من كاتب جعل من ماضيه كتاباً يقرأه الآخرون... إن الذاكرة، رغم أنها عبءٌ، هي أيضاً نافذتنا نحو الخلود، هي التي تجعل من لحظةٍ واحدةٍ عمراً كاملاً، ومن شخصٍ واحد تاريخاً لا يُمحى.

لا يمكن للمرء إذاً أن يتحرّر من ذاكرته، لكنّه يستطيع أن يتصالح معها. يستطيع أن يجعلها صديقاً بدلاً من أن تكون سجّاناً، أن ينتقي منها ما يبقيه حيّاً، لا ما يُطفئ روحه. فلا أحد يملك أن يمحو ماضيه، لكنّه يستطيع أن يمنحه معنى مختلفاً، يستطيع أن ينظر إلى الذكرى الأليمة على أنها درس، وإلى اللحظة السعيدة على أنها هدية، وليست حسرة. في النهاية، نحن لسنا سوى مزيج ممّا عشناه كلّه، وما نتذكّره كلّه، وما اخترنا أن نحمله معنا في رحلتنا. الذاكرة هي لعبتنا الخطرة، لكنّها أيضاً كنزنا الثمين، والمكان الوحيد الذي لا يمكن لأحد أن يسلبه منا.

قراءة المقال بالكامل