مهم جداً هذا التغير في المقاربة الجزائرية تجاه الصحراء ودول الساحل بعدما أقر مجلس الوزراء الجزائري، الأحد الماضي، الدراسات الأولية لمشروع إنجاز خطي سكة حديد يربطان بين وسط وشمال البلاد وأقصى مدن الجنوب. أهمية وصول خطوط سكة الحديد إلى عمق وأقصى الصحراء الجزائرية، وتمديده إلى دول الساحل، على امتداد أكثر من ألفي كيلومتر، تتجاوز البعد الاقتصادي والأهمية التجارية وتسهيل حركة تنقل الأفراد. الأهمية الأكبر لمثل هذه الخطوة الجزائرية المتأخرة، سياسية وأمنية أيضاً، وتحسب على هذا الصعيد محلياً وإقليمياً في المدى المنظور.
تأخرت السياسات الجزائرية، لأسباب موضوعية ترتبط بظروف بناء وتشكل الدولة الوطنية بعد الاستقلال عام 1962، أو لأسباب ترتبط بضعف التفكير وغياب التدبير الراشد في الاهتمام بإنماء مناطق الصحراء وربطها بالشمال وتسهيل حركة التنقل وتوفير متطلبات العيش للسكان في الجنوب، رغم أن مفارقة كبيرة تطرح نفسها هنا، وهي أن 90% من مداخيل البلاد تتأتى من ثروات الصحراء النفطية. تسبب هذا التأخر في خلق معضلات كبيرة اجتماعية بقدر، وسياسية وأمنية بقدر أكبر، لكون مدن الصحراء مواجهة لمنطقة الساحل التي تعاني من حرب منذ عام 1963.
وضعت الحروب وأزمة الجفاف، ثم تطور الظاهرة الإرهابية في دول الساحل، وتفاقم تدفق الهجرة، مدن الصحراء الجزائرية في قلب هذه المعادلة الأمنية القلقة. وبقدر ما كانت هذه الأزمات تتفاقم، بقدر ما كانت التقديرات الجزائرية في غير موضعها، من حيث التركيز على مقاربة وتصورات أمنية كانت تقتصر على الوسائل التقليدية في مراقبة الوضع وحل المشكلات. تصورات لم تكن ناجعة، ولم تعد صالحة كذلك في الظرفية الراهنة، خصوصاً مع تشكل وعي لدى سكان الجنوب، شبابه على وجه الخصوص، بشأن الاستحقاقات الاقتصادية والاجتماعية للمنطقة أسوة بسكان الشمال.
ستخلق الخطوة تماساً واحتكاكاً سياسياً حاداً مع السلطة، بلغ ذروته في احتجاجات البطالين (العاطلين عن العمل) في مدن الجنوب على فترات، ثم الاعتصام الكبير ضد استغلال الغاز الصخري في عام 2015. ظهر حينها أن رمال الجنوب تتحرك والعقليات الجديدة تتغير، وأن الصحراء بقدر ما هي منطقة خصبة بالنفط والغاز، بقدر ما قد تتحول الى خاصرة رخوة بالنسبة للجزائر. وإذ ذاك، كان يتعين أن تراجع الدولة الجزائرية سياساتها وتعيد مراجعة حساباتها بشأن استحقاقات الجنوب، وتقر خططاً خاصة للتنمية وتحسين البنية التحتية وتطوير قطاعات تخلق الثروة، خصوصاً بعد تحولات مثيرة للإعجاب بالنسبة لقطاع الزراعة في الصحراء.
وصول سكة القطار والطريق المعبد إلى أقصى نقطة في جنوب الجزائر، هو أكثر من التزام سياسي وضرورة اقتصادية واجتماعية. إنه جزء من منظور بات يدمج ضمن مقررات الأمن القومي، كامل العوامل المساعدة على الاستقرار، ويصحح اختلالات مناطقية. ثم إن امتداد ذلك إلى دول الجوار الجنوبي، النيجر ومالي وموريتانيا، وفق ما هو مخطط له، سيعيد ترتيب العلاقات ويعزز ثقل الجزائر ويحدث لا محالة تغييرات بالغة الإيجابية على كامل المنطقة. كما سيسهم في تقليص الاضطرابات التي ستعالجها حركة التجارة والأنشطة المرافقة، من حيث تثبيت السكان وتحسين البنية التحتية للصحة والتعليم، والحد من تدفقات الهجرة والأنشطة غير المشروعة بما فيها الإرهاب، وتشكيل حلقة إقليمية متعاضدة تحول الحدود إلى منطقة منتظمة. هذا خيار منتج للتنمية والثروة، يركز أسباب الأمن والاستقرار أفضل بكثير وأقل كلفة من الفاعل العسكري. ما يحققه القطار وشاحنة التجارة على صعيد الأمن، أفضل مما تحققه الدبابة.
