سلطة المحرّر الأدبي و"تحريره" عربياً

منذ ٢ أيام ٢٤

ارتبط ظهور المحرّر الأدبي في الثقافة الغربية بتحوّل عملية "النشر" إلى صناعة كاملة في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، مع توسّع دور النشر الكبرى وازدياد الإصدارات الأدبية المتنوعة، وشيوع الفنون السردية المختلفة، والزيادة المطردة في منافذ بيع الكتب والمكتبات العامة، وتكرّس وجود المحرّر الأدبي إلى جانب عناصر أخرى في هذه الصناعة، مثل الناشر والوكيل الأدبي والمراجع اللغوي.

صار من الطبيعي حين تشرع في قراءة رواية مثل "شيفرة دافنشي" لدان براون، أن تقرأ إهداءً موجّهاً من الكاتب إلى محرّر الرواية جيسون كوفمان، وشكره على جهده الهائل حتى تخرج إلى النور. وفي نهاية روايتها "قواعد العشق الأربعون"، تشكر أليف شافاق محرّرها سلوفاكي بول، وتقرُّ بتدخلاته الرئيسية ومساهماته الثمينة الكثيرة، كذلك فعل ماركيز تجاه محرّره رون شيبرد، وجوزيف هلر ومحرّره الشهير بوب غوتليب، بل لا تكاد تخلو رواية عالمية من تقديم أو تذييل يتضمن اسم محرّرها.

وعموماً، يَعرفُ التاريخ الأدبي أسماءَ محررين بارزين تركوا تأثيراً بالغاً في مسيرة الكتّاب الذين حرّروا كتاباتهم، فلا يُذكر اسم الكاتب الأميركي سكوت فيتسجيرالد إلا ويُستدعى معه اسم محرّره ماكسويل بيركينز، ودوره في تحرير رواية "غاتسبي العظيم"، وهو نفس الدور تقريباً الذي لعبه مع الكاتب الشهير توماس وولف، وإرنست همنغواي، حتى إن الأخير أهدى روايته "العجوز والبحر" التي صدرت عام 1952 إلى ذكرى بيركينز.

لم يعرف التاريخ الروائي العربي دور المحرّر ووظيفته

في الثقافة العربية، ما زال مفهوم المحرّر الأدبي يتلمّس خطواته، إذ لا يمكن إحصاء أسماء محرّرين بارزين على يد واحدة، بل إنَّ مهام المحرّر الأدبي نفسها ما زالت غامضة أو مُلتبسة على الكاتب والناشر معاً، على الرغم من الإقرار بأهمية حضوره في السنوات الأخيرة بسبب اتساع صناعة النشر العربي، ودخولها طوراً استثمارياً وتجارياً ملموساً، وظهور آلاف الدور الجديدة، وانضمام فئات اجتماعية مختلفة إلى جمهور قراء الأدب السردي، وكذلك انتشار الجوائز ومنصات التكريم التي دفعت باتجاه تجويد المنتج الأدبي للدخول في منافسات التتويج والانتشار.

ويأتي الغموض والالتباس حول دور المحرّر الأدبي بالدرجة الأولى من غياب تحديد سلطاته، إذ لا إجابة قاطعة عن السؤال التالي: إلى أي حدٍّ يمكن للمحرّر أن يتدخّل في النص؟

وقد يكون للإجابة وجهان؛ فمن جهة يمكن القول إن سلطة المحرّر مطلقة في النظر إلى النصّ، وتناول عناصر بنائه وتكوينه الشكلي والمضموني كافّة، أما من جهة أخرى، فيمكن اعتباره بلا أيّ سلطة، أو هي سلطة محدودة للغاية، لأنها مقيّدة بقبول الكاتب أو استجابته لتوصيات المحرّر.

قبل فترة، أرسلت دار نشر لي نصاً روائيّاً لتقييمه، فأبديت إعجابي به، لكنّني أوصيت بتغيير الصوت، أي وجهة نظر، وهو تغيير واحد يبدو بسيطاً، لكنّه في حقيقته يعني قلْبُ النص وإعادة كتابته من جديد، والمحرّر لا يستطيع أن يقوم بهذه المهمة، وإلّا أصبح بمثابة مؤلفٍ ثانٍ للنص، أو ما يطلق عليه "كاتب شبح".

باستطاعة المحرّر أن يُوصي بأوجه تطوير النص إذا كان مستوفياً لمبادئ الكتابة الجيدة، كأن يوصي بتغيير البداية الروائية، أو الخاتمة أو تطوير إحدى الشخصيات أو حذف أخرى، أو الحكْم على منطقية الحدث الروائي أو مدى ترابط الحبكة، لكنّه لا يستطيع أن يخلّص الأسلوب واللغة من الضعف والركاكة. قد يلجأ بعضُ المحرّرين إلى عمل ما يشبه "ورشة" الكتابة، ليشير للكاتب من خلالها إلى مواطن الضعف والركاكة وكيفية معالجتها، أو طريقة التعامل مع الظواهر الأسلوبية السيئة داخل النص، لكنّه بالتأكيد لن يمنح النص الصفة الأدبية إذا كان يفتقدها.

ربما لو حُرّرت روايات طه حسين لقُلِّلت صيغ المبالغة

كل هذا لا يعني أنّ المحرر مقيّد كلياً، إذ يمتلك صلاحية التعامل المباشر مع الفخاخ التي يقعُ فيها الكاتب، مثل الأخطاء اللغوية والتناقضات، وأخطاء التواريخ أو الحقائق الثابتة أو الاقتباسات ونسبتها إلى قائليها، أو حالات النسيان التي قد يقع فيها الكاتب تجاه شخصيات وأحداث روايته. ونحن نتذكر كيف ارتكب جوستاف فلوبير خطأ تحريرياً حين وصف عين إيما في روايته "مدام بوفاري" بثلاثة ألوان في مواضع مختلفة من الرواية.

ويمكن تلخيص مهمة التحرير الأدبي في المعنى القاموسي لكلمة "حرّر" أي فكّ الأسر، أو كسر القيود، فما هي القيود التي يعمل المحرّر على تخليص النص منها؟ إنّها كل ما يعوق أداءه، أو تأثيره على وجدان القارئ. وبالتالي يمكن اعتبار ضعف اللغة والتكرار والحشو وفقر الخيال والتناقض والتضاد بين أجزاء النص والسطحية والافتعال وغياب الوحدة الموضوعية أو الفنية جميعها أشكالاً من القيود، وتصبح مهمة المحرّر هي صقل وتشذيب النص للوصول إلى صورة مُثلى صالحة للنشر تلائم الجمهور المستهدف، والرسالة التي يحملها، وصولاً إلى الاعتبارات الأخرى التي يضعها المحرّر في حسبانه وتتعلّق بالجانب التجاري، باعتباره مطّلعاً على سوق النشر واتجاهاتها والذوق العام.

وهناك من يدفع بأنّ التاريخ الروائي العربي لم يعرف هذه الوظيفة، ورغم ذلك قدّم منتوجاً رائعاً أوصل الرواية العربية إلى منصة "نوبل"، لكن إجابة هذا الدفع تتلخّص في أنّ تاريخ الرواية العربية الحديثة نفسه هو تاريخ محدود نسبياً، إذا ما قورن بالروسي أو الغربي على سبيل المثال، كما أنه قام على أقلام رائدة شكّلت طليعة الأدب العربي في القرن العشرين، رغم محدوديّتها من ناحية العدد مقارنة مع المرحلة التاريخية الراهنة، كما كانت منافذ النشر شحيحة للغاية، والوصول إليها شاق يحتاج إلى إثبات الجدارة والاستحقاق، وبالتالي؛ فهذا ما يفسر قلّة النصوص ركيكة الأسلوب، وضعيفة اللغة، وساذجة الطرح.

مع ذلك، ربما لو كان هناك محرّر أدبي لروايات طه حسين لاقترح عليه تقليل صيغ المبالغة وأسماء الفاعل، ولربما اقترح على نجيب محفوظ تخفيض المستوى الفكري في الجمل الحوارية لبعض الشخصيات!

اليوم، صار بمقدور أي شخص أن ينشر كتاباً، بمن في ذلك محدودو الموهبة ومقطوعو الصلة باللغة وفنّياتها، كما اختلف الذوق الأدبي الذي كان يستقبل النص دون أن يخلط بين الجمالي والتجاري.

إن عمل المحرّر هو عمل حسّاس يتطلّب ثقافة موسوعية وخبرة أدبية كبيرة ومعرفة وثيقة باللغة وفنونها، ولهذا كان كثيرون ممّن امتهنوا هذه المهنة كتّاباً ومبدعين، مثل المحرّر فورد مادوكس، وهو أيضاً الروائي الشهير الذي لعب دوراً بارزاً في اكتشاف ودعم كتّاب حداثيين مشهورين، كذلك المحرّرة توني موريسون في دار "راندوم هاوس"؛ التي فازت بـ"جائزة نوبل للآداب".

وهكذا تولّد خبرة المحرّر ثقة لدى الكاتب تشجّعه على التعاون والاستجابة لتوجيهاته، إلى الدرجة التي تجعل كاتباً مثل الأميركي توماس وولف يقبل بحذف تسعين ألف كلمة من روايته "الملاك الذي ينظر إلينا"، وأن يقبل فيتسجيرالد بإضافة نحو عشرة آلاف كلمة لروايته "غاتسبي العظيم"، التي اختار المحرّر عنوانها أيضاً، وأن يوافق الكاتب الأميركي ريموند كافر على تعديلات المحرّر غوردون ليش التي اختصرت قصصه إلى أكثر من النصف، حتى إنه اختصر قصة مؤلّفة من 37 صفحة إلى 12 صفحة لا غير! هذه بعض النماذج عن علاقة الثقة بين الكاتب والمحرّر.

حتى الآن لم ينتج الواقع الثقافي العربي بعد مثل هذه النماذج، ربما بسبب حالة التوجّس لدى كثير من الكتّاب، وفكرتهم المغلوطة عن المحرّر، قد ساعد على ذلك ندرة المحرّرين الأدبيّين الاحترافيين، أصحاب المعرفة اللغوية بفروعها المختلفة؛ نحواً وصرفاً وبلاغةً، والمعرفة النقدية والفلسفية والخبرات الحياتية المتنوعة، ولا شك أن أبرز أسباب هذه الندرة هو السبب المادي، فالعمل التحريري شاق ويحتاج إلى وقت، وبالتالي فإنّه مكلف مادياً ولا تستطيع دور النشر المستقلة تحمّله.


* روائي من مصر

قراءة المقال بالكامل