سناء جميل... أميرة المسرح الصعيدية الناطقة بالفرنسية

منذ ٣ ساعات ١٢

بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر) عقوداً من حياته مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفن. تنشر "العربي الجديد" مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين والصحافيين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءات مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس، وغيرها من العواصم

حظينا، نحن طلبة السنة الأولى في معهد السينما بالقاهرة، بالحصول على بطاقات مجانية لحضور العروض التي تقدَّم في مسارح الدولة. توجهت مع زملاء إلى "المسرح القومي" لحضور مسرحية "تاجر البندقية" لشكسبير، وكانت من إخراج فتوح نشاطي وبطولة سناء جميل (بورشيا) وحسين رياض (شيلوك المرابي اليهودي). كان حسين رياض أشهر من نار على علم، أما سناء جميل فكانت معروفة جيداً من جمهور المسرح، لكنها لا تملك اسماً رنّاناً لدى الجمهور العريض. في الطريق إلى مسرح الأزبكية عاودتني مشاهدها بدور نفيسة في فيلم "بداية ونهاية" من إخراج صلاح أبو سيف عن رواية نجيب محفوظ، وبقيت أتذكر أداءها الساحر لدور صعب، فرضت حضورها به، برغم أنه ليس دور البطولة. 
إثر إسدال ستار نهاية المسرحية، صفقنا طويلاً وبحرارة للنجمين حسين رياض وسناء جميل. أداء متقن للغاية، برغم صعوبة إلقاء الحوار الذي ترجمه الشاعر خليل مطران بلغة فصيحة بليغة حافلة بالبديع والمحسّنات، لكنها غير طيّعة للتمثيل المسرحي. توجهنا إلى الكواليس لتهنئة المخرج وفريق التمثيل. عبّرت لسناء جميل عن إعجابي الكبير، ففاجأتني مداعبة قائلة "كلام بس؟ مفيش بوسة؟"، فاحمر وجهي وارتبكت، وقلت بصوت خفيض: "من عينيّ"، ففاجأتني ثانية: "دي البوسة ف العين بتجرح"، فرفعت راية الاستسلام "طبعاً مش حقدر على حضرتك". وفي طريق العودة تندّر زملائي على قلّة حيلتي.
بعد ذلك، حضرت تصوير بعض مشاهد فيلم "فجر يوم جديد" ليوسف شاهين (1965)، وكانت سناء جميل تؤدي فيه دور البطولة النسائية، لكن لم يحالفني الحظ بلقائها، إذ لم تكن موجودة في اللقطات التي شاهدت فيها محمود المليجي وحمدي غيث. ثم تسنّى لي أن أتعرّف إلى زوجها الصحافي لويس جريس، وكان مدير تحرير مجلة "صباح الخير". قدّمني إليه رئيس التحرير آنذاك صلاح جاهين. لكنني لم ألتق سناء جميل مرة ثانية إلا في بيروت سنة 1970. كنتُ قبل ذلك قد شاهدتها تؤدي بامتياز دورين في فيلمين من روائع السينما المصرية: "المستحيل" (إخراج حسين كمال) و"الزوجة الثانية" (إخراج صلاح أبو سيف). لا يمكن لمن شاهد هذا الفيلم أن ينسى سناء جميل، الزوجة الأولى، وهي تتلصص من خلف الباب المغلق، على جلسة حميمية بين زوجها وزوجته الثانية (سعاد حسني). تعابير الغيرة القاتلة لا يجيدها إلا من امتلك موهبة سناء جميل. (بالمصادفة كان الممثل القدير صلاح منصور زميلها في الأفلام الثلاثة). 
في بيروت تقاسمت سناء جميل بطولة مسرحية "كارت بلانش" مع نضال الأشقر. وكانت المسرحية من إخراج روجيه عساف عن نص كتبه عصام محفوظ. كنت أعمل آنذاك ناقداً في جريدة "الجريدة"، وجاء في مقالتي عن هذه المسرحية: "سناء جميل أستاذة، تتلاعب بصوتها لتُعَبِّر عن حالات نفسية متباينة، ولها حضور مسرحي أخّاذ". وبعد يومين نقل إليَّ عصام محفوظ تحيات من سناء جميل، وشكرها على مقالتي. كنت أجلس مع لويس جريس في مقهى "الهورس شو" في شارع الحمراء. من الطبيعي أن الحوار دار حول المسرحية الجديدة، وأعربت عن إعجابي بسناء جميل وهي تؤدي دورها باللهجة اللبنانية، برغم اللكنة المصرية، وقلت معلّقاً: "ما شاء الله، مجيدة باللغة الفصحى والعامية المصرية الشعبية واللبنانية"، فأضاف لويس جريس: "والفرنسية". وذكر لنا أنها كانت تلميذة راهبات فرنسيات "المير دو ديو"، وأنها حين حصلت على البكالوريا كانت تجيد الفرنسية ولغتها العربية هزيلة. وحين رغبت في الالتحاق بمعهد التمثيل، واجهت معضلة. كان هناك "امتحان القبول"، وكان من المفروض أن تؤدي مشهداً من مسرحية "مجنون ليلى" لأحمد شوقي المكتوبة بالشعر العربي الفصيح. لجأت إلى صديق قرأ على مسامعها النص، فدوّنته بالحروف اللاتينية ليسهل عليها حفظه، وشرح لها معانيه. أدركت اللجنة الفاحصة أنها موهوبة، فقُبِلَت في المعهد، واهتم العميد زكي طليمات بأمرها وأخذ بيدها. 
في لقائي التالي مع سناء جميل للشكر على الشكر، لاحظت أنها لم تتذكر الطالب الذي زارها في كواليس "تاجر البندقية"، وحين رويت التفاصيل ضحكت وقالت: "الآن أتذكر الواقعة، لكن عذراً لم أتذكّر الشخص، وما كنت أتوقع أن ألتقيه ذات يوم في بيروت". أتيتُ على ذكر زكي طليمات، فعلّقت قائلة: "أستاذي، ومرشدي، ومعيني اجتماعياً وفنياً، ومساهماً في صقل موهبتي وفي انطلاقتي ممثلةً محترفةً. هو اختار لي اسمي الفني. اسمي الحقيقي ثريا يوسف عطا الله. أعطاني أفكاراً من ذهب لتحسين لغتي العربية. قال: "فلتكن البداية بالأغاني. ما تحفظينه من أغانٍ باللغة الفصحى لأم كلثوم وعبد الوهاب وأسمهان وسواهم، أعيدي إلقاء كلماتها من دون غناء. سيعتاد لسانك الأداء الفصيح". ثم نصحني بأن أستمع إلى تجويد القرآن الكريم في الإذاعة، وأن أحفظ بعض الآيات، وأن أعيد إلقاءها مراراً، ببطء في البداية. وكنت على خلاف مع أهلي، وبفضل العميد زكي طليمات تمكنت من الحصول على غرفة في بيت الطالبات. وحين شكّل فرقة "المسرح الحديث"، وكانت عناصرها من طالبات وطلبة المعهد وبعض المتخرجين حديثاً، ضمني إليها. وكان يدعو مخرجي المسرح والسينما إلى مشاهدة العروض، وهكذا اكتشفني المخرج السينمائي حسن الإمام، وأسند إليَّ دوراً في فيلم "حكم القوي". كان ذلك أواخر 1950، وكنت ما زلت طالبة".    
عرفت من الصحافي المصري مجدي فهمي، المقيم في بيروت آنذاك ويعمل محرراً في مجلة "الشبكة" وكان من قبل رئيس تحرير مجلة "الكواكب" المصرية الشهيرة، بعض التفاصيل عن حياة سناء جميل العائلية. أخبرني أنها بنت عائلة صعيدية قبطية ميسورة، تيتّمت وهي في الحادية عشرة من عمرها، بعدما فقدت والديها على التوالي، فأصبح شقيقها الأكبر وليّ أمرها، وألحقها تلميذة بالقسم الداخلي في مدرسة "مير دو ديو" Mère de Dieu. وحين عرف أنها ترغب في دراسة التمثيل، رفض الفكرة تماماً، وهي قابلت الرفض بعناد، فصفعها بقوة، وطردها من البيت. وظلّ - وتضامن معه أفراد الأسرة جميعاً - على قطيعة معها. ونصح لي مجدي فهمي أن أتجاهل سيرة أهلها إذا ما حادثتها مجدداً، وعملتُ بالنصيحة.  
خلال إقامتها في بيروت سنة 1970، تولّت سناء جميل بطولة فيلم "فداك يا فلسطين" الذي كتبه مروان العبد وأخرجه أنطوان ريمي، وشاركها البطولة الممثل الفلسطيني-اللبناني محمود سعيد. وكان آخر لقاء لي معها في بيروت على مائدة غداء دعا إليها المخرج التلفزيوني إلياس متى، بحضور مهندس الديكور هاغوب أصلانيان ومدير التصوير برونو سالفي، وهؤلاء الثلاثة من الذين عملوا معها في السينما المصرية.

كانت زيارتي الأولى للقاهرة بعد غياب سنة 1972. التقيت الكاتب والمنتج المسرحي سمير خفاجي، مؤسس فرقة الفنانين المتحدين. نشأت الصداقة بيننا في بيروت التي كان سمير خفاجي يزورها مراراً، ويحرص في كل مرة على مشاهدة ما يُعرض في "مسرح شوشو". زرته في شقته في شارع القصر العيني، وكان من جيرانه في البناية الأديب الناقد لويس عوض، والممثل الكوميدي عبد المنعم إبراهيم، وسناء جميل وزوجها لويس جريس. قلت له إنني أعرفهم جميعاً، الأول كان أستاذي، والثاني صديقي، وتعاملنا معاً في فيلم في بيروت، وسناء وزوجها طبعاً، وأنا مدين لها ببوسة! قال: "يبقى تتفضل تشاركنا العشاء بكره هنا في بيتي". 
في تلك الجلسة أصرّ سمير خفاجي على أن سناء جميل ممثلة كوميديا بامتياز، وأعلن أنه سيسعد يوم ينتج مسرحية تلمع فيها نجمةً للكوميديا. بقيت مع سمير بعد ذهاب المدعوين، وناقشته في موضوع الممثلة الكوميدية. فأخبرني أنه تابعها منذ الخمسينيات، حين اشتركت في بعض المسرحيات في فرقة إسماعيل يس، مثل "حبيبي كوكو" و"صاحب الجلالة" ووقفَتْ إلى جانب عمالقة الكوميديا: فضلاً عن صاحب الفرقة، حسن فايق وعبد الفتاح القصري واستفان روستي وزينات صدقي ومحمود المليجي. عندئذ تذكرتُ فيلم "إسماعيل يس في متحف الشمع"، وكانت سناء جميل مشاركة فيه. فقال سمير: "وقبله مع إسماعيل أيضاً: "إدّيني عقلك" و"كدبة أبريل" و"حرام عليك". هذا وقد نفّذ سمير خفاجي وعده، فأنتجت فرقة الفنانين المتحدين مسرحية "كاباريه" سنة 1974، وكانت من تأليف وحيد حامد وإخراج جلال الشرقاوي وبطولة نيللي وسناء جميل وسعيد صالح. (قبل ذلك كانت سناء جميل قد قامت ببطولة مسرحيات كوميدية مثل "زهرة الصبار" و"كارت بلانش"، لكنها كوميديات مختلفة عن تلك التي تقدمها مسارح الكوميديا الشعبية للجمهور العريض). 
ثم حدث أول تعاون فني بيننا سنة 1990. كانت "مؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك لدول الخليج العربي" بصدد إنتاج مسلسل تمثيلي بعنوان "آن الأوان" بالتعاون مع المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. كتبت سكينة فؤاد القصة، وبشير الديك السيناريو، وكان الاتفاق مع المخرج السينمائي خيري بشارة. وقع خلاف في وجهات النظر بين المخرج والجهة المنتجة، فانسحب خيري بشارة، وظل النصّ وعُهد بالمسلسل إلى المخرج التلفزيوني إبراهيم الشقنقيري، وتعاقدت معي المؤسسة المنتجة لضبط الحوار، بردّ الكلمات العامية فيه إلى اللغة الفصحى، ومراعاة قواعد الصرف والنحو، خصوصاً أن القصد من إنتاج المسلسل هو المساهمة في محو الأمية ودعم اللغة الفصحى. توليت المهمة من دون المساس بالسيناريو المكتوب بجودة متميّزة، واقترح المخرج إبراهيم الشقنقيري تعديل بعض المشاهد، بما يتيح استغلال موهبة سناء جميل الفائقة التي أُسند إليها دور رئيسي. سعدت بهذه الفرصة، وتذكّرت سناء جميل في "تاجر البندقية"، خصوصاً في مواجهة المرابي في المحكمة، فشحذت قريحتي وكتبت بعض المونولوغات الطويلة المنمّقة. ناقشني المخرج وأثنى على عملي، ثم قال لي: سأعطي سمّاعة التلفون للبطلة، وترامي إليّ صوت سناء جميل مع تهنئة حارة على هذه الحوارات، وأضافت: "ده انت مش بس طالب وناقد، ده انت كاتب كمان. وكاتب حاجة حلوة".   
بعدها لم ألتقِ سناء جميل، بيد أني تابعت أخبارها عبر وسائل الإعلام، تابعت تنوّع أدوارها في المجالات كافة، في الإذاعة والتلفزيون والمسرح والسينما. عرفت أن آخر ظهور مسرحي لها كان سنة 1994 في دور بطولة مسرحية "زيارة السيدة العجوز" للكاتب السويسري فريدريش دورنمات، وقد أخرجها النجم الكوميدي محمد صبحي، وتولى فيها جميل راتب أداء الدور الرئيسي. وفي السينما، أدّت دوراً في النسخة العربية من فيلم "الرسالة" الذي أخرجه مصطفى العقاد. أما آخر أفلامها، فكان سنة 1998 "اضحك الصورة تطلع حلوة" الذي أخرجه شريف عرفة، من بطولة أحمد زكي وليلى علوي. ولم تختفِ صورتها عن الشاشة الصغيرة، وهي تؤدي الأدوار الرئيسية، سواء في الأفلام التلفزيونية (السهرات) أو في المسلسلات، وآخرها مسلسل "طرح البشر" عام 2002، وهي السنة التي أصيبت فيها بداء سرطان المعدة الخطير. 
كانت تشعر بالمرارة لأنها ستغادر الدنيا من دون أن يسأل عنها أهلها، لا بالحضور ولا بالاتصال الهاتفي. وكان أن أعلن شريك حياتها المحبّ لويس جريس نبأ وفاتها في جميع وسائل الإعلام، وانتظر ثلاثة أيام، فلم يظهر أحد، فأقام لها الجناز وواراها الثرى.  

قراءة المقال بالكامل