سورية... قصّة يمكنها أن تنجح

منذ ٧ ساعات ٣٩

افتتحت خبيرة العمل الميداني في بلدان النزاعات، ماري فوريستيه، مقالتها "إعادة بناء الدولة السورية: انطباعات من الميدان" (8 مايو/ أيار 2025) على موقع مركز كارنيجي الشرق الأوسط، بعبارات متفائلة جداً، وهي محقّة، فاللحظة السورية، بحسب وصفها، يمكن أن ترمّم مجتمعاً أنهكته السياسات الأسدية البعثية على جميع الأصعدة في حكم دام 53 عاماً، وترمّم مجتمعاً عريقاً مزّقته الحرب التي دامت 13 عاماً. وترى أن حقيقة هذه اللحظة لا يمكن إلا أن يكون مستوحىً من انطباعات السوريين أنفسهم، بمختلف تلاوينهم وانتماءاتهم. وافترضت الكاتبة، وهي محقّة، مجدّداً في هذا الافتراض، أننا ينبغي أن نستشعر أفق هذا المجتمع ومستقبله، بناء على تصوّرات أصحابه للراهن وللمستقبل، وأفق انتظاراتهم، وكذلك خلاصاتهم من تجربة العيش في ظل نظام استبدادي متوحّش، ونستوعب خلاصات تجربتهم من حرب ما بعد الثورة التي عايشوها بكل تفاصيل الإجرام والإبادة الجماعية التي عرفتها. وتروم ماري فوريستيه، بمنهجها هذا، أن تمنح القارئ خلاصة مهمّة، أن التغافل عن تصوّر السوريين مستقبل بلدهم جريمة أخرى يمكن أن تُرتكب في حقهم.

ما الذي يمكن أن يستخلص من انطباعات السوريين عن لحظتهم وما هي آفاق توقعاتهم؟... تجيبنا فوريستيه باختصار، أن السوريين يرغبون في نظام سياسي يضمن: أولاً، المساواة بينهم جميعاً، لأنهم عايشوا بما فيه الكفاية مرارة اللامساواة الأسدية، مساواة تستوعب جميع الأطياف والتنويعات الاجتماعية. ثانياً، أن تكون سلطة القانون فوق الجميع، لأنهم يعون جيداً ما يعنيه نقيض ذلك، حينما يكون الشخص هو القانون، الآمر الناهي، ومصلحته الشخصية فوق كل اعتبار، مصلحة لا تخضع لتقلبات الزمان والمكان. وعليه، نفهم، سبب إطلاق السوريين كلمة ثقيلة الدلالة على النظام السابق، وهي "الأبد"، والتي يتساوى فيها الشخص والنظام، ويذوب بعضهما في بعض ضدّاً على مصالح كل السوريين.

ليست هذه الأساسيات التي يمكن أن تنطلق منها المرحلة السورية الجديدة هيّنة بطبيعة الحال، وهي تحدّيات محفوفة بمخاطر كثيرة، داخلية وخارجية. أما الشروط الأولية التي على السوريين، بحسب فوريستيه، العمل على تنزيلها، ولا يمكن للمرحلة الانتقالية النجاح بدونها، فتتمثل إجمالاً في إشراك جميع المكوّنات الاجتماعية في إدارة المرحلة، والحرص على المحاسبة وتحقيق العدالة الانتقالية، ومحاسبة المتورّطين في جرائم النظام السابق، وتضيف ضرورة محاسبة المسؤولين الحاليين كذلك على تجاوزاتهم، ثم السعي إلى تحقيق مصالحة وطنية فعلية، تقوم على كشف الحقيقة، وتعويض الضحايا، وإشراك السوريين العلويين وغيرهم في إعادة بناء سورية سياسياً واقتصادياً، والأهم الحرص على إشراك السوريين دائماً في كل الخطوات الانتقالية لتلبية تطلعاتهم وتعزيز الاستقرار على المدى الطويل.

ومن زاوية نظر أخرى، بعيدة هذه المرّة عن التفاؤلية، وأقرب ما تكون إلى تشاؤمية الواقع السياسي للمنطقة. يقدّم الأستاذ في جامعة جورج تاون والخبير بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بول هايك، تحليلاً آخر للوضع السوري (نشر على موقع ABC الإخبارية في 8 مايو/ أيار 2025)، بعنوان "حرب العصابات والبحث عن اقتصاد وطني"، يعتبر فيه أن الجهاديين الحاكمين اليوم سيدفعون المجتمع السوري المتنوع إلى مزيدٍ من الريبة والقلق، بالأخص إذا ما سعوا إلى ترسيخ اقتصاد يصطلح على تسميته "اقتصاد السنّة" ويقصد تحديداً تركيا إلى جانب السعودية ودول الخليج الأخرى، وسيزدادون ريبة في نظره إذا لم يتم التخلي عن العناصر الجهادية في صفوف هؤلاء الحكام. مضيفاً أن الاقتصاد السوري سيصير رهينة للرؤية التركية التي يصفها بالاقتصاد السني القائم على شبكة رجال الأعمال المتدينين. وفي خلاصة المقالة، يمنح القارئ تصوّراً شديد الريبة من مستقبل البلد أمام طوائفه ودياناته وانقساماته العرقية، محاولاً القول إن السوريين أمام مهمة مستحيلة للنجاح في كل هذه التحدّيات، بالأخص إذا كان النظام الجديد الملتحي هو من سيقود هذه العملية الإصلاحية.

ينبغي أن تحرص كل المساعي السورية الانتقالية اليوم على تعزيز دولة المؤسّسات التي تحتكم إلى القانون، وتعلي من شأنه في كل قراراتها

ويرى بول هايك، في مقالة أخرى (نشرت في الموقع في 1 يوليو/ تموز الجاري)، بعنوان "الدفاع عن الإسلام والقلق من أجله..." أن الهجوم الانتحاري الذي طاول كنيسة مار إلياس في دمشق، والذي رغم إدانة نظام الرئيس أحمد الشرع له، لم يكن في المستوى المطلوب للإدانة، وبالأخص أنه لم يجعل من هؤلاء الضحايا شهداء، كما سبق أن فعل مع ضحايا تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من المسلمين، وهذا ما سيجعل المسيحيين، بحسب بول، وغيرهم من الطوائف الأخرى، يزدادون ريبة وشكّاً في حقيقة المساواة والحقوق التي سيحصلون عليها، ووضعهم داخل النظام الجديد.

أمام هذين التحليلين، وبعد توالي الأحداث المتسارعة في المنطقة، يمكن ربما للمتتبع التثبت، بعض الشيء، من توقعات كل من فوريستيه وبول، حيث إن زيارات الرئيس الأميركي ترامب السعودية وقطر والإمارات، ولقاءه الشرع في الرياض، ثم رفع العقوبات عن سورية من قبل الولايات المتحدة ثم الاتحاد الأوروبي، وأخيراً سلسلة الزيارات والقنصليات التي جرى افتتاحها مجدّداً في دمشق، بالإضافة إلى خلاصات الضربة الأميركية لإيران، وما سبقها من تقليم للأذرع الإيرانية، جعل السوريين أمام لحظة نادرة لتوافق الإرادات والمصالح، على أن يكون النظام الحالي، بخلفيته الدينية المعروفة، سيد المرحلة الانتقالية، لكنها سيادة مشروطة بخياراتٍ لا بدّ من الالتزام بها، ولعلّه من الواضح أنه ثم الاتفاق عليها مسبقاً، وهو ما شهدنا الشرع وفريقه يحاول السير على خطاه، من خلال عقده الحوار الوطني، ثم الإعلان الدستوري، وكذلك الحرص على التنوّع في الوجوه السياسية الحاكمة، وكلها خطوات إيجابية ستسهم في ترشيد التحول الانتقالي في البلد، وتسهم أيضاً في التوفيق الصعب بين مطالب كل الدول التي أرادت لسورية أن ترجع إلى مكانها الطبيعي إقليمياً، وتصير نقطة قوة في إطار حلفها الجديد، بعد أن كانت نقطة ضعف استغلها المحور الإيراني الروسي.

هي إذن مسيرة ينطبق عليها بدقة مصطلح المغامرة في سياق تحالفاتٍ جديدة قديمة، القديم منها أن سورية ترجع إلى حضنها التاريخي، وهو تحالف يتوافق، كما يبدو في جزء كبير منه، مع مصالح السوريين حالياً، حتى وإن لقّبه بول بالسني، لأنه بالفعل كذلك، لكنه خيارٌ سبق للسوريين العيش في كنف غريمه التاريخي أي العلوي/ الشيعي، وكانت المحصّلة الموت الذي عايشوه، ثم إن هذا التوافق، بحسب ما يبدو، سيحقق على الأقل طفرة في الاعتراف بتنوّعهم، وحقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإسهام في استقرارهم مرحلياً، وإعطاء مزيد من الثقة للمانحين في ضخّ الاستثمارات التنموية داخل البلاد، ومعاودة انفتاح اقتصاد سورية على العالم خارج قوقعة الكبتاغون الأسدية.

الخبر الجيد سقوط الأسد يمكن للغرب استثماره بلغة المصالح المتبادلة، وتحويله إلى قصة نجاح، عبر بناء سورية صديقة للأميركيين وديمقراطية ومزدهرة

ولكن، هل يمكن أن نحدّد، بدقة، الحاجة الملحة التي ينبغي للسوريين التقيّد بها. نعم، يمكننا ذلك. وهنا، لن نستفيد من تجربة السوريين المريرة وحدها، بل سنستفيد من تجارب غيرهم، بالأخص في ليبيا وتونس. وما تُستفاد من النظام في ليبيا حقيقة واحدة، أن انعدام وجود المؤسّسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد، وهو ما كان عليه الحال عهد معمّر القذافي. لن يؤول بالبلد عندما تعصف به الاختلالات إلا إلى ما يشبه وضع ليبيا اليوم. ولهذا، وضعنا تونس نظاماً مقابل لما عليه ليبيا، لأن تونس، وإن كانت في أسوأ الحالات التي يمكن عيشها على مختلف الأصعدة (غرفة انتظار كبرى)، فإنها، على الرغم من ذلك، تقوم على مؤسسات يُحترم وجودها وإنْ شكلياً، لكنها تحفظ دوماً الصورة القانونية للبلاد وربما لُحمتها. وسورية، كما يعلم الجميع، كانت لحظة الأسد، دولة لا تقوم على مؤسّسات رسمية ولو صورية، ولا تعترف بأي قانون أو دستور إلا تشابك المصالح البعثية الأسدية الخانقة لكل أوجه الحياة والكرامة الإنسانية.

ولهذا، ينبغي أن تحرص كل المساعي السورية الانتقالية اليوم على تعزيز دولة المؤسّسات التي تحتكم إلى القانون، وتعلي من شأنه في كل قراراتها، ولا ضرورة للكمال في هذا، بل الاحتكام إلى التطوّر التدريجي والنضج في التنزيل. أما غير هذا، فيمكنه أن يعصف بالبلد مجدّداً في ضبابية لا يمكن التكهن بنهاياتها ومآسيها. ومنه نفهم ما سبق أن قاله سيمون تيسدال في مقالته الاستباقية "الثورة السورية على المحكّ" (المنشورة في صحيفة الغارديان البريطانية في 8 فبراير/ شباط 2025) حول الضرورة الملحة لمساعدة السوريين، لأن ثمن الفشل الذي يعني تجدّد الفوضى والتحالفات المضلّلة سيكون باهظاً هذه المرّة. وفي سياق التفاؤل دوماً، الذي يحسُن أن تُختم به هذه المقالة، يقول إن الخبر الجيد الذي هو سقوط الأسد يمكن للغرب استثماره بلغة المصالح المتبادلة، وتحويله إلى قصة نجاح، عبر بناء سورية صديقة للأميركيين وديمقراطية ومزدهرة، وهي كلها مطامح يبدو أنها تسير إلى حدود الساعة في طريقها الصحيح، رغم التعثرات الكثيرة.

قراءة المقال بالكامل