قيم سياسيون وباحثون تونسيون، اليوم السبت، مسار الثورة التونسية منذ بدايتها في العام 2011، مؤكدين أن الانتقال الديمقراطي شهد عدة فترات وكان زاخراً بالحقوق والحريات منذ بدايته رغم بعض الصراعات بين الأحزاب، ليشهد تراجعاً بعد 25 يوليو/ تموز 2021، تاريخ بدء الرئيس التونسي قيس سعيّد في اتخاذ سلسلة إجراءات استفرد من خلالها بالحكم. وجاء التقييم بمبادرة من "الهيئة الوطنية للدفاع عن الحريات والديمقراطية"، وبحضور باحثين وشخصيات سياسية من مختلف الانتماءات.
وقال مدير "مركز الدراسات الاستراتيجية حول المغرب العربي"، عدنان منصر، في كلمة له، إن "الحالة الشعبوية لم تأت في 25 يوليو 2021، بل كانت هناك بيئة لذلك، فالشعبوية هي استجابة لأزمة أخلاقية، ولا بد أن نقر أن الانتقال الديمقراطي وقع في أزمة أخلاقية وأنه فشل في الإنجاز"، مشدداً على أن "استعادة ثقة الشارع في الديمقراطية يتطلب الصدق لأن هناك حاجة لاستعادة الثقة في الديمقراطية".
وأوضح أن "هناك هزيمة أخلاقية للانتقال الديمقراطي، وكل الائتلافات التي حكمت خلال فترة الانتقال الديمقراطي لم تكن تملك أي برنامج، وهمها الأساسي تقاسم المواقع دون برامج مشتركة، من تقاسم الرئاسات، وتوزيع المسؤوليات، الأمر الذي ولّد تفككاً، كما أن أغلب المفاوضات خلال الحكم كانت حول تقاسم المناصب وليس وضع برامج واضحة، فكل ائتلاف حكم خلال فترة الانتقال الديمقراطي كان يعيش صراعاً داخلياً ويتخذ قرارات فردية".
وفي تصريح لـ"العربي الجديد"، قال رئيس "الهيئة الوطنية للدفاع عن الحريات والديمقراطية"، العياشي الهمامي "كان لا بد من نظرة نقدية لدور النخبة السياسية خلال المسار الديمقراطي، سواء كانت في الحكم أو المعارضة، بغاية بحث مواطن الخلل التي قادت البلاد إلى هذا الوضع السيئ وإلى عودة الحكم الفردي والاستبدادي"، مؤكداً أن "هناك حالياً عدة مساجين سياسيين، وأزمة اجتماعية واقتصادية، والوضع أتعس مما كان عليه قبل الثورة التونسية. ولا بد من مناقشة ما حصل طيلة المسار من 2011 الى 2025 بهدف توضيح الرؤيا لبناء مستقبل أفضل".
وأضاف الهمامي أن" الوضع سيئ، ولكن السؤال هو لماذا وصلنا إلى هذه الأزمة؟ ولماذا وجد قيس سعيّد الأرضية ملائمة للقيام بانقلابه؟"، موضحاً أن "جزءاً من الشعب التونسي رحب بسعيّد، وهذا دليل على أن النخبة السياسية لم تكن في حجم انتظارات الشعب التونسي، ولهذا عندما جاء سعيّد استمعت إليه ورحبت به". وحول من يتحمل مسؤولية فشل المسار الديمقراطي، رد أن "الجميع يتحمل المسؤولية بتفاوت، فالأحزاب التي حكمت تتحمل مسؤولية أكثر من غيرها، وكل من تقلد السلطة أو كان في موقع قرار، وحتى النقابات أو المجتمع المدني وحتى الإعلام". ولفت إلى أنه "لا أحد يملك حلّاً، ولكن شرط من شروط النجاح هو توحد الجهود، فالسلطة تقمع جميع الأصوات المخالفة وحان الوقت للعمل المشترك وللنضال من أجل الديمقراطية"، مؤكداً أنه "لا بد من تصورات لأن الديمقراطية دون تنمية ستفشل حتماً".
شعارات الثورة التونسية
من جانبه، قال الباحث عبد السلام ككلي، لـ"العربي الجديد"، إن "هناك مسؤولية جماعية فيما وقع من 2011 إلى2025"، مشيراً إلى أن "الثورة التونسية قامت على عديد الشعارات من حرية وكرامة وطنية، وانتظر التونسيون تحقيق مطالب الثورة والتشغيل وتنمية الجهات لكن لم يتحقق أي شيء، حيث استفحلت الأزمة وعرفت البلاد تراجعات وغلاء في المعيشة". وأوضح أن "السؤال المطروح هو كيف استطاع قيس سعيّد أن ينقلب على الدستور؟ ويحل البرلمان؟"، معتبراً أن "سعيّد استغل الوضع السياسي وما وقع من فوضى في البرلمان من عنف، وفوضى، والنواب فهموا أن هناك مشكلاً يتعلق بالنظام الداخلي، وناقشوا وضع مدونة سلوك لتجاوز الإشكاليات، ولكن هذا المشروع قُبر وكان هناك مشروع آخر يهدف إلى خراب المجلس وترذيل (إفساد) الحياة السياسية لأن بعض من دخلوا المجلس لم يمثلوا الشعب، بل مثلوا كتلاً ومصالحهم الشخصية".
ولفت إلى أن "التونسي خرج باستنتاج أن الطبقة السياسية متعفنة (فاسدة) ولا تخدم مصالح الشعب وكان لا بد من بديل، وللأسف ساهم الجميع في ترذيل الحياة السياسية، كما أن غياب المحكمة الدستورية كان خطأ جماعياً يتحمل مسؤوليته الجميع، لأن تأسيسها كان لا بد أن يكون بعد عام من انتخابات 2014 ولكن منذ ذلك الوقت عجز المجلس على انتخاب 4 أعضاء، وكان بإمكان (حزبي) نداء تونس وحركة النهضة الوصول إلى توافق بينهما، ويبدو أنه بدأ الاقتراب من التوافق وانتخاب عضو، ثم توقف المشروع ولم يتم بعث المحكمة الدستورية".
وأشار إلى أن "قيس سعيّد يتحمل جزءاً من المسؤولية، ولكن جميع الفاعلين السياسيين يتحملون أيضاً جزءاً منها"، مضيفاً أن "خراب المؤسسات وغياب استقلالية القضاء أدى إلى الأزمة الحالية، ولا بد من تحرير الحياة السياسية وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وعقد حوار جدي فالجميع مسؤول".
حوار مطلوب
بدوره، قال عضو "جبهة الخلاص الوطني" المعارضة، رياض الشعيبي، في تصريح لـ"العربي الجديد" إن "البلاد عرفت من 2011 إلى 2025 عدة أحداث كبرى، تحتاج إلى التوقف عندها وإلى مراجعات، وهو ما تم اليوم، لعلها خطوة لفتح حوار بين جل الفاعلين السياسيين"، مشيراً كذلك إلى "أن هناك مسؤولية عامة ومشتركة بين الجميع". وأضاف الشعيبي أن "أي حوار مطلوب في ظل التحديات الخطيرة التي تعيشها البلاد"، مؤكداً أن "هناك مخاوف من عودة الاستبداد وانتشار الشعبوية، ما يهدد المسار الديمقراطي".
وأوضح أن من "خاصية الانتقال الديمقراطي أن كل الأطراف شاركت فيه، بالحكم أو المعارضة، ودستور 2014 كان مشتركاً"، مشيراً إلى أن "هناك أحزاباً شاركت في الترويكا مع النهضة في فترة ما، ونداء تونس والعائلة الدستورية شاركت في المسار وكذلك التيار الديمقراطي والعائلة الديمقراطية وحركة الشعب وبالتالي المسؤوليات متفاوتة". واعتبر أن "النهضة لن تهرب من تحمل المسؤولية والاعتراف بالأخطاء التي ارتكبتها في فترة ما، ولكن إن كان الهدف من معالجة الأخطاء بناء أرضية مشتركة لإعادة تنظيم صفوف المعارضة فهذا سيلقى تعاطياً إيجابياً من حركة النهضة، وإن كان الهدف الدخول في مزايدات سياسية وتبادل التهم فهذا مرفوض والنهضة ستنأى بنفسها عن ذلك".
من جانبه، يرى الأمين العام لحزب التيار الديمقراطي، نبيل حجي أن "التقييم بمنطق تحميل المسؤولية سيفشل لأن الأطراف السياسية ستتقوقع وكل طرف سيعمل على الدفاع على مساره وعلى خياراته، وقد لا نصل إلى تحليل وتشخيص فشل الانتقال الديمقراطي"، مؤكداً أنه "لا بد من نظرة متعالية ومتحررة عن الاعتبارات الذاتية والحزبية". وأضاف في تصريح لـ"العربي الجديد" أن "أصابع الاتهام موجهة إلى الأحزاب السياسية، لكن الانتقال الديمقراطي لم يكن فقط بمشاركة الأحزاب، بل المجتمع المدني والإعلام أيضاً، وهؤلاء أيضاً وراء فشل الانتقال الديمقراطي، ولكن الأحزاب تتحمل المسؤولية الأكبر".
أي وجهة؟
ولفت إلى أنه "خلال الفترة الانتقالية من 11 يناير/ كانون الثاني 2011 حققت الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة التونسية والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، برئاسة عياض بن عاشور الكثير، والسؤال كيف نجحت؟" مبيناً أنها "ضمت العديد من الشخصيات الوطنية والنخب وكان الهدف هو البناء، ولأن الأحزاب كانت منشغلة بالاستعداد للانتخابات، ولكن للأسف بعد انتخاب المجلس التأسيسي أصبح التفكير في التموقع الحزبي ولم يكن هناك حد أدنى للنقاش، وتم النزول تحت الحد الأدنى من الحوار بهدف ربح الأصوات ما أدى إلى كره الأحزاب والمسار الديمقراطي، والنتيجة أن هناك من استثمر في تلك الأخطاء بطريقة شعبوية".
ويرى الرئيس السابق لـ"المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية"، مسعود الرمضاني، في تصريح لـ"العربي الجديد" أن مسار الثورة التونسية "مر بفترتين، فترة أولى لم تكن الأفضل ولكنها كانت فترة لانتعاش الديمقراطية والحريات، ولكن مع ذلك لم يكن هناك أي استماع لمكونات المجتمع المدني والمنظمات"، مضيفاً أن "كل من كان يمسك السلطة حينها يتعامل معها كغنيمة، وهو ما جعل الناس تكره السياسة وتفكر في البحث عن بديل بعيداً عن الأحزاب والسياسيين". وأوضح أن "البلاد عاشت في 25 يوليو 2021 أزمة اجتماعية واقتصادية ومزيداً من الانغلاق الحقوقي على مستوى الحريات ما يجعل الفترة صعبة"، معتبراً أن "الخروج من الوضع الحالي لا يكون إلا بتكاثف الجهود".
