سيرغي كاراغانوف: استعادة دور السلاح النووي أو الانزلاق للحروب

منذ ٥ ساعات ١٤

في منتصف عام 2023، أثار المنظّر والمستشار السياسي المقرب من الكرملين، الرئيس الشرفي لمجلس السياسة الخارجية والدفاعية في روسيا سيرغي كاراغانوف، جدلاً واسعاً بدعواته إلى ارتقاء سلم التصعيد مع الغرب وتعديل العقيدة النووية الروسية عبر توسيع قائمة الحالات المراد فيها استخدام السلاح النووي. وفي الأشهر التالية، ظل كاراغانوف الملقب بـ"منظّر الكرملين"، من أبرز المروّجين لتعديل العقيدة النووية التي رأت نسختها المعدلة النور في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، ونصت صراحة على إمكانية استخدام السلاح النووي ضد دولة غير نووية في حال شنت هجوماً على روسيا بدعم من دول نووية.
ودافع كاراغانوف في حوار مع "العربي الجديد" من موسكو، عن صوابية تعديل العقيدة النووية الروسية، نافياً "أي دور رسمي" له بحدوث ذلك. وفيما أعرب عن اعتقاده بأن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يتمنى إنهاء الحرب الأوكرانية، اعتبر أن "المسألة تكمن في ما إذا كانت الدولة العميقة في الولايات المتحدة والمحيطون به سيسمحون له" بتحقيق ذلك. وبينما أقر بأن روسيا لم تحقق جميع أهدافها في أوكرانيا، اعتبر أن النصر يتلخص "في سحق النظام الحاكم حالياً وفرض نزع السلاح بصورة كاملة على باقي أنحاء أوكرانيا".

في نوفمبر الماضي، خرجت روسيا إلى العالم بعقيدتها النووية المعدلة التي توسع عدد حالات استخدام السلاح النووي. كيف تقيّمون التعديلات التي طرأت على العقيدة النووية الروسية؟
يشكّل تعديل العقيدة النووية خطوة مهمة على الطريق الصواب، لأنه يزيد جدية التهديدات باستخدام السلاح النووي وإعادة الخوف منه، وهو ليس ضرورياً لثني الغرب عن مواصلة الحرب ضد روسيا فحسب، وإنما أيضاً لاستعادة دور صمام أمان منع اندلاع حروب كبرى أداه السلاح النووي على مدى 60 عاماً. لكن في السنوات الأخيرة، أسفر تدهور النخب الغربية والثورة الإعلامية والتعوّد على حياة السلم، عن تلاشي خوف البشر من الحروب، فبدأوا بالدخول فيها من جديد. قبل 15 أو 20 عاماً، كان السيناريو أن يُوصل الغرب الوضع في أوكرانيا إلى حرب ضرباً من ضروب المستحيل. الوضع اليوم متوتر للغاية، وقد تندلع حروب في أرجاء أخرى من العالم ما لم نوقف الغرب. حان الوقت لاستعادة دور السلاح النووي في السياسة العالمية حتى إذا تسنّى لنا إبعاد أوروبا عن الساحة العالمية مع الاتفاق مع الولايات المتحدة على انسحابها بدون المساس بمكانتها قوةً عالمية.

ألا تخشون أن يشكّل تفعيل دور السلاح النووي خطوة نحو نهاية العالم وهلاك البشرية؟
أعتبر أن اختراع الأسلحة النووية جاء بمثابة رسالة إلهية للبشرية في منتصف القرن الـ20 حتى تستفيق بعدما خاضت حربين عالميتين في أقل من نصف قرن، ولكن الأوروبيين اليوم يدفعون بالوضع نحو حرب عالمية ثالثة، متناسين أهوال الحربين الأولى (1914 ـ 1918)، والثانية (1939 ـ 1945). لذلك يتعيّن علينا إعادة إدخال صمام أمان نووي إلى منظومة العلاقات الدولية إلى حين تأسيس منظومة جديدة للعلاقات حتى لا ننزلق إلى سلسلة من الحروب على غرار الهجوم الإسرائيلي على الدول المجاورة.

الأوروبيون اليوم يدفعون بالوضع نحو حرب عالمية ثالثة، متناسين أهوال الحربين الأولى والثانية

أثناء إدارتكم للجلسة العامة لمنتدى بطرسبرغ الاقتصادي الدولي في يونيو/ حزيران الماضي، وصفكم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنكم محلل سياسي براق، وأقر بأنه قارئ لكتاباتكم، كما أنكم تُصنفون أحد أبرز "منظّري الكرملين". ما حقيقة الدور الذي أديتموه في تعديل العقيدة النووية الروسية؟
يسعدني كثيراً أن الرئيس وغيره من قادة بلادي يقرأون كتاباتي. لا أقر بأي دور رسمي لي، ولكنني أعلم أن كتاباتي مقروءة، وقبل عامين أشهرت موقفي المطالب بتعديل العقيدة النووية واستعادة دور السلاح النووي في العلاقات الدولية، ووجّهت انتقادات إلى عسكريينا لتخاذلهم عن توظيف الترسانة الموروثة من أسلافهم بفاعلية كافية. صحيح أنني واجهت أيضاً موجة من الانتقادات من كافة الجهات في الخارج وحتى في الداخل من قبل النخب ذات التوجهات الليبرالية، ولكن قطار التغيير انطلق، وأفتخر بذلك على الرغم من أن هذا لا يعني أنني أقف وراءه.

جزمتم في أحد مقالاتكم أن الولايات المتحدة لن ترد على هجوم نووي روسي على دولة أوروبية غير نووية، ولكن في حال ردت، ألن يشكل ذلك رفعاً خطراً للرهانات؟
كوني مؤرخاً للعقائد النووية و"الحرب الباردة"، علمت علم اليقين أن الولايات المتحدة ما كان لها أن تشن ضربة نووية على أراضي الاتحاد السوفييتي مهما تكن الظروف، والمظلة النووية لحلفائها هي خدعة بحتة. تعمّقت في دراسة عقائد حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وتأكدت أنه لم يُنظر في استخدام السلاح النووي إلا لضرب أراضي ألمانيا الشرقية الموالية للاتحاد السوفييتي، ولكن واشنطن لم تعتزم يوماً ضرب الاتحاد السوفييتي نفسه إدراكاً منها أن الضربة الجوابية ستستهدف أراضي الولايات المتحدة تحديداً. ومع ذلك، أدعو الله ألا يُستخدم السلاح النووي أبداً، لأن هذا إثم أخلاقي كبير نظراً لعجز مثل هذه الأسلحة عن التفرقة بين الأهداف، ما يعني أن استخدامها سيؤدي أولاً إلى سقوط عدد هائل من الضحايا، وثانياً إلى تجاوز العتبة الأخلاقية التي وضعناها على عاتقنا عبر الترويج لأسطورة انعدام المنتصرين في حرب نووية. حينها كنا مقتنعين بأن وجود السلاح النووي في حد ذاته يمنع اندلاع أي حرب كبرى، ولكن الوضع لم يعد كذلك اليوم، فإما نستعيد دور السلاح النووي، وإما ننزلق إلى سلسلة من الحروب تليها حرب عالمية، ولا خيار ثالثاً.

هل لديكم بنون وأحفاد؟ هل تقبلون أن يستيقظوا يوماً في عالم يشهد حروباً نووية في حال طبقت نظريتكم؟
أجل، لدي بنون وأحفاد، ولا أتمنى أن يستيقظوا على وقع حرب نووية، ولكنني أعلم علم اليقين أن أحفادي سيعيشون في عالم سيُستخدم فيه النووي، وسيشهد سلسلة من الحروب حتماً، وستسوده حالة من الرعب ما لم نستعد عامل سترة النجاة المتمثلة بالسلاح النووي، ولذلك أعتبر أن ما أروّج له ليس واجباً أمام بلادي فحسب، وإنما أمام أحفادي والبشرية جمعاء أيضاً، وأعتقد أن مهمة روسيا المقدسة هي إنقاذ البشرية من حرب عالمية بدأت تلوح في الأفق.

مهمة روسيا المقدسة هي إنقاذ البشرية من حرب عالمية بدأت تلوح في الأفق

هل سيستطيع الرئيس الأميركي دونالد ترامب من وجهة نظركم إنهاء الحرب في أوكرانيا؟
أعتقد أن ترامب يتمنى إنهاء هذه الحرب، ولكن المسألة تكمن في ما إذا كانت الدولة العميقة في الولايات المتحدة والمحيطون به سيسمحون له، ما يعني أن علينا أن نمضي قدماً على طريق ارتقاء سلم التصعيد بصرف النظر عن ترامب لإبعاد الولايات المتحدة عن هذه الحرب التي تخوضها ضدنا على حساب الشعب الأوكراني بغية إلحاق أكبر خسائر ممكنة بروسيا. في المقابل، سنوفر نحن لهم خروجاً مشرفاً يختلف عن الانسحاب الأميركي المخجل من أفغانستان في عام 2021، وآمل أن تحذو أوروبا حذوهم عاجلاً أم آجلاً. يبدو ترامب شخصية أكثر وطنية وواقعية من غيره وأقل ارتباطاً بأيديولوجيا الإمبريالية العالمية، ولكننا لا نعلم ما إذا كانت إرادته كافية للتوصل إلى اتفاق مع بوتين على التوقف التدريجي عن تغذية فتيل الحرب والقبول بانتصار روسيا على أوروبا.

أعتقد أن ترامب يتمنى إنهاء الحرب في أوكرانيا، ولكن المسألة تكمن في ما إذا كانت الدولة العميقة في الولايات المتحدة والمحيطون به سيسمحون له

بعد مرور ثلاث سنوات على بدء النزاع الروسي الأوكراني في 24 فبراير/ شباط 2022، هل حققت موسكو أهدافها؟
يمكن القول إن روسيا حققت جزءاً من أهدافها، ولكنها لم تحققها جميعها، نظراً لعزوفنا عن استخدام ترسانتنا العسكرية بكامل قوتها، ولكنني آمل أن يحدث ذلك عاجلاً أم آجلاً. يجري حالياً طحن الجيش الأوكراني، ولكن خصومنا الغربيين، لا سيما الأوروبيين منهم، يتطلعون لاستمرار الحرب. سنُضطر عاجلاً أم آجلاً للارتقاء بمستوى استخدام القوة. بمواجهتنا الغرب في أوكرانيا، لا نقاتل من أجل أمننا وسيادتنا نحن فحسب، وإنما أيضاً من أجل الأغلبية العالمية. يحاربنا الغرب بشراسة بعدما كسرنا قاعدة الهيمنة والتفوق العسكري الغربيين اللذين امتدا لخمسة قرون. نشهد مواجهة حادة لا تقتصر بالطبع على أوكرانيا على الرغم من أنها تجري على أراضيها حالياً. يتلخص النصر على أوكرانيا، برأيي، في سحق النظام الحاكم حالياً وفرض نزع السلاح بصورة كاملة على باقي أنحاء أوكرانيا وإقصاء النازيين الجدد من الأراضي الروسية تاريخياً على الرغم من أنهم يحظون بدعم أوروبي.

يتلخص النصر على أوكرانيا في سحق النظام الحاكم وفرض نزع السلاح بصورة كاملة على باقي أنحاء أوكرانيا وإقصاء النازيين الجدد

 كيف تقيّمون دور الدول العربية في الوساطة بين روسيا من جانب وأوكرانيا والغرب من جانب آخر؟
أزور بلدان العالم العربي بين فترة وأخرى وألتقي مع سياسييه وباحثيه وشخصياته الدينية، ويسعدني كثيراً أن السعودية وقطر والإمارات أصبحت تؤدي مجتمعة دور سويسرا، ولكن بفاعلية أكبر مقارنة مع برن التي عجزت عن توفير منصة مستقلة حقاً للحوار، وهو ما زاد الاستقلالية السياسية للعالم العربي في السنوات الـ10 أو الـ15 الأخيرة.

سيرة سيرغي كاراغانوف
العالم السياسي سيرغي كاراغانوف من مواليد عام 1952، وتخرج من كلية الاقتصاد بجامعة موسكو عام 1974. وفي عامي 1976 و1977 تلقى تدريباً بالبعثة السوفييتية الدائمة لدى الأمم المتحدة. وفي عام 1979، ناقش رسالة دكتوراه بعنوان "دور الشركات متعددة الجنسيات ومكانتها في السياسة الخارجية الأميركية". وفي عامي 1984 و1985 تلقى تدريباً بالسفارة السوفييتية لدى الولايات المتحدة. ومنذ عام 1978، شغل مناصب مرموقة في المؤسسات البحثية والتعليمية السوفييتية والروسية الرائدة، ويشغل حالياً منصب المشرف العلمي بكلية الاقتصاد العالمي والسياسة العالمية بالمدرسة العليا للاقتصاد بموسكو. له مجموعة من الدراسات والمؤلفات حول قضايا العلاقات الدولية والأمن الدولي، وآخرها مشاركته في إعداد كتاب "من الردع إلى التخويف" الذي صدر في موسكو في العام الماضي، ويقدّم رؤية للارتقاء بفاعلية الردع لمنع وقوع حرب كارثية.

قراءة المقال بالكامل